أواه على أيام الاستعمار..!

صالح خريسات

ثمة حقيقة محزنة، تفرض نفسها الآن على الواقع السياسي، في البلاد العربية والإسلامية. وهذه الحقيقة هي ، أن العرب والمسلمين قد سببوا لأنفسهم، طيلة شيقاقاتهم الداخلية، من الأضرار الجسام، أكثر كثيراً مما ألحقته بهم الحروب مع الأعداء ، أو مع الأجنبي المحتل . وقد تجاوزت الأضرار حجم الخسائر البشرية، والمادية، وتدمير البنية التحتية ، إلى الخسائر المعنوية المتمثلة بفقدان عامل الثقة بالنفس ، وبالرابطة الوطنية ، والقومية ، والدينية ، وكل أشكال الروابط التي تجمع بين أبناء الجنس، في كيان سياسي واحد.

فالحياة في شطر معين من تاريخ العراق السياسي، وتاريخ أفغانستان، والصومال، والسودان، وربما في بلاد عربية وإسلامية كثيرة، كانت أفضل مما عليه في أية فترة من العصور اللاحقة، بعد تخلص تلك الدول من الأجنبي المحتل. وإذا كنا نسأل أحدهم، أن يعين لنا الحقبة التي هنئ فيها أبناء الدول، بأسعد ظروف الحياة، وأكثرها أمناً وهدوءاً واستقراراً، من تاريخها الطويل ، فسوف يشير دون أقل تردد، إلى الحقبة التي كانت فيها البلاد، تحت الاحتلال الأجنبي .

وما دام حديثنا عن مصر، أكبر دولة عربية ، فقد كانت صحيفة المقطم  المصرية، صريحة في تأييد الأجنبي المحتل، وتصويره في صورة إنسانية رفيعة، فالإنجليز في زعمهم ، لم يجشموا أنفسهم مشقة الإقامة في مصر، إلا لرفع الظلم وإحياء العدل . وإليهم يرجع الفضل في إنقاذ مصر من الإفلاس، وإقامة اقتصادها على أساس سليم متين . وأما حزب الأمة ، فقد كان يدعو إلى التحرر الفكري، وإلى التعاون مع الأجنبي في كل ميادين الحياة، ومجالات النشاط . وكانت صحيفة الجريدة، التي يصدرها حزب الأمة، ويرأس تحريرها لطفي السيد ، تصور الإحتلال على أنه حقيقة واقعة ، وترى أن عدم الإعتراف بشرعيته، لا يعني عدم وجوده، ولا يقلل من سلطته ونفوذه .

وكانت ترى أن هؤلاء المحتلين، ماضون في طريقهم ، مستقلون في تصريف الأمور، رضي المصريون في ذلك أم كرهوه ،ومن الواضح في نظرهم، أن التخلص من الإحتلال، يحتاج إلى قوة لم تتوفر لدى المصريين . فالذين يهيجون الناس عليه، إنما ينفقون الوقت فيما لا طائل تحته، ويصرفون الجهد إلى ما لا ينفع. ومادام الإنجليز هم المستقلين دون غيرهم بتصريف الأمور ، فلا سبيل إلى العمل على الإصلاح، أو تنفيذ أي مشروع يرمي إلى النهضة بمصر، إلا بالاتفاق معهم . فالخير إذن حسب رأيهم، هو أن ينصرف المصريون عن حربهم إلى إقناعهم بالإصلاح.   

وقد كتب الزيات يوماً يقول : أليس صلف الانجليز، أبلغ في العزة ، وطمع الفرنسي، أليق بالحياة ، وطموح الإيطالي، أخلق بالرجولة ،وصراحة الألماني، أوعى إلى الهيبة ، واستقلال الأمريكي،  أضمن للفوز ؟! فما معنى أن يظل التواضع، والقناعة، والزهد، والمداراة، والتوكل، على إطلاقها، فضائل العرب والمسلمين ؟!  وعرض الزيات، أن يكون مقياس الفضائل والرذائل، هو النفع والضرر ، فما كان مؤدياً إلى  منفعة، سمي فضيلة ،وما كان مؤدياً إلى مضرة، سمي رذيلة . وهذا مقياس لا يأباه الدين، ولا الخلق ، فالمذهب المنفعي، قديماً وحديثاً، معروف بين مذاهب الخير .

واعتماداً على هذا المقياس ، فإن بعض البلاد، لا يصلح معها إلا الإحتلال . فقد كانت تحكمها سلطة قوية مستبدة ، ولكنها كانت حكيمة، في مراعاة مصالح الناس، وحماية أرواحهم، وممتلكاتهم من عبث العابثين ، على غير ما هو واقع الحال، في الصراعات الدامية المتكررة، في كل سنوات مابعد الإحتلال .

فإذا قلنا إن الأجنبي المحتل، كان سبباً في تدهور الأوضاع الأمنية، والاقتصادية، والاجتماعية، في تلك البلاد المضطربة بالحرب، وأعمال العنف، والإرهاب، فإن الواقع يقول غير ذلك !!

وإذا قلنا أن الأجنبي المحتل، كان سبباً في تفرق جماهير الشعوب شيعاً، وأحزابا متناحرة، فإن تلك الجماهير، كانت موحدة في ظل الاحتلال. وإذا قلنا أن المحتل لا يجلب معه، إلا الدمار، والتخريب، وطمس الحضارة ، فإن إحتلال نابليون لمصر، قد أدخلها في حساب الحضارات، ووضعها على مدارج التقدم . وهذه الفكرة تدفعنا إلى التساؤل ، ماذا في البلاد الأخرى ، مثل أفغانستان، والصومال ، وجنوب السودان، من وجوه الحضارة، ويخشى عليها من الأجنبي المحتل ؟!

هذه المفارقات العجيبة، والحقائق المحزنة، تدفعنا إلى القول، بأن الباطل إذا كان وسيلة ناجعة، لحفظ الحياة، كان خيراً من الحق نفسه. فبطلان الرأي لا يمنع قبوله، ما دام عاملاً من عوامل بقاء الفرد ، فلرب أكذوبة، أو أسطورة ،تدفع الحياة إلى الأمام، بما تعجز عنه الحقيقة المجردة العادية .