المقاومة الفلسطينية والاستثمار الخاطئ

تحسين أبو عاصي

– غزة فلسطين –

[email protected]

فجر الشعب الفلسطيني الانتفاضتين الكبيرتين ، وكثرت الكتابة حولهما بأشكال مختلفة ، وبأساليب شابتها العاطفة والاندفاع الوطني في كثير من الأحيان ، مبتعدين بذلك عن تحليل فسيفساء الحدث بجميع خطواته ومراحله ، وابتعدوا كثيرا عن الواقع والعقلانية ، ولا أقصد هنا واقعية بوش ، وعقلانية النظام العربي الرسمي ، وتحدثوا عن انتفاضة العزة والكرامة ... انتفاضة التحرير والنصر .....، وفي النهاية لم نر عزا ولا كرامة ولا نصرا ولا تحريرا ، فقد صُمنا طويلا ، وجُعنا كثيرا ، لكي نفطر في النهاية على بصلة مُصنِّنة كريهة الرائحة ، فحظينا بانفصال غزة عن الضفة ، وبمداهمات يومية لجنود الاحتلال إلى مدن وقرى ومخيمات الضفة الغربية ، وقطع أوصال الضفة الغربية ، وبناء الجدار ، وضرب كل مقومات الدولة المرتقبة عن طريق خلق وقائع مادية جديدة وقاسية ،  وتحول الشعب الفلسطيني إلى شركات للاستثمار وبقرات للحلب ، وعشنا فترة استرخاء ورخاء ، منذ قدوم السلطة إلى ما قبل انتخاب حركة حماس ، نبني ونُشيّد المسارح والكازينوهات والفنادق والملاهي ، بينما كان عدونا يبني ويشيد ترسانته العسكرية والتكنولوجية ، ويخطط كيف يقضي على المقاومة الفلسطينية في المستقبل ، وكيف يُسقط منا المزيد في وحل الخيانة ، حتى وقفنا أخيرا طوابيراً كما كنا نقف من قبل أكثر من خمسين عاما في طوابير وكالة الغوث ؛ لنحصل على الحليب وحبات زيت السمك ، واليوم وقفنا طوابيرا للحصول على صحن الأرز داخل مدارس الأونوروا وفي  مخيمات اللجوء الجديدة على أرض غزة ، بعد الدمار الهائل الذي تسبب بع العدو في حربه الأخيرة على غزة ، أو طابور تعبئة غاز الطهي بسبب الحصار ؛ لنشعر من جديد بالغربة القاسية على أرض الوطن الذي بكيناه كثيرا بعد أن كنا نحلم به طويلا ........ ولا خلاص يبدو في الآفاق المعتمة ........ وكأن الجوع والحرمان والجهل يعيد حقاً ويبني وطناُ ويخلق ثورة !! .

الكثير من الذين كتبوا حول الانتفاضتين لم يتطرقوا إلى الجوانب السلبية في تلك الانتفاضتين ، على الرغم مما لهذه الجوانب السلبية من أهمية كبيرة جدا في مراجعة الأداء التنظيمي بشقيه السياسي والعسكري ، والفعل الميداني الهادفين إلى العمل الناجح والدقيق .

الحقيقة المرة التي تنادي وتقول : إن الخطأ لا يمكن أن يكون صوابا مهما جملناه من رتوش زائفة ، وإن الجهل لا يمكن أن يكون علما مهما دافع عنه المتسلقون ، وأن الوطن اكبر من الجميع ، لو أنصفنا أنفسنا قبل أن ننصف غيرنا كذبا وزورا ، وأنه لا يمكن لشعب في الأرض وخاصة الشعب الفلسطيني ، من انتزاع حقوقه من بين أنياب مغتصبيه ، إلا بجميع أشكال المقاومة بما فيها المسلحة ، ولكن هيهات لنا هيهات ، فقد صدق جورج حبش عندما قال : إن البندقية الغير مُسيّسة إنما ترد على صدر حاملها  .

فجرنا الانتفاضة الأولى بعمل عفوي غير مخطط من احد على الإطلاق ، وركب القادة الموجة ، وعرضوا أهدافهم من خلال منشوراتهم ، كان من أهمها إطلاق جميع الأسرى بدون استثناء احد ، وانسحاب قوات الاحتلال من غزة والضفة بدون شروط إلى حدود عام 1967 ، فلم يخرج الأسرى ولم ينسحب الاحتلال ، علما بأن الاحتلال كان يفرج عن كثير من الأسرى في المناسبات كالأعياد وشهر رمضان ( وليس ذلك تجميلا للاحتلال كما سيفهم الجهلة ؛ لأن الحقيقة تبقى حقيقة مرة ، لا بد من ذكرها رغم مرارتها )، وعظمت الأحداث الجسام ، وسالت الدماء ، ودفع الفلسطينيون الثمن غاليا ..

كنت أبحث في حيرة عن ما بين التسميتين : هل هي حقا انتفاضة أم انتفوضَى .

بحثت عن معنى المصطلح ( الانتفاضة ) في الفهم السياسي واللغوي فلم أجد له تفسيرا سياسياً يشبع المثقف والباحث الأمين ، على الرغم من أن كلمة الانتفاضة دخلت جميع قواميس العالم اللغوية والسياسية ، فالانتفاضة في المعنى اللغوي تعني الحركة السريعة الدائمة لجسم ما من أعلاه إلى أسفله والتي لا تقف أبدا ، ويصعب السيطرة عليها إلا بسحق ذلك الجسم سحقا تاما ، أو بعودته إلى حالة أفضل من ذي قبل في محيطه : فنقول مثلا : انتفضت السمكة أو انتفض البركان ، فهل ينطبق ذلك بأمانة الباحث والمتأمل على الانتفاضة الفلسطينية الأولى أو الثانية ؟.

أما في المعنى السياسي فتعني : الرفض المطلق والكامل للاحتلال ، ومقاطعته وعدم التعامل معه بالكلية ، فهل فعل الشعب الفلسطيني وقياداته ذلك ؟ .

أما التعبير الجيد فببساطة ، كانت الانتفاضة الأولى أو الثانية على حد سواء تعبيرا نضاليا عن الرفض لواقع الاحتلال وممارساته ، ليس في وجه الجلادين الصهاينة فقط ، بل في وجه العالم المتآمر المتغطرس الذي يكيل بمكيالين ، ولكن هذا التعبير النضالي لم يتم التعامل معها بالشكل السليم من قبل قادة الشعب الفلسطيني ، والذين من المفترض ومن خلالهم أن يتم انتزاع الحقوق المسلوبة ، وهنا أتذكر خطاب عضو الكنيست الفلسطيني عبد الحميد دراوشة من على منصة الكنيست ، عندما قال وبالحرف الواحد قبل توقيع اتفاق أوسلو بقليل : إنني أدعو حكومة إسرائيل إلى الاعتراف الآن وفورا بمنظمة التحرير الفلسطينية ، قبل أن يأتي يوم على هذه الحكومة تعترف فيه بحركة حماس مرغمةة ........ ( انتهى ) . وبالإمكان أن تستنتج من ذلك ما تشاء .

وأما التعبير الرديء فهو ما يتعلق بالحركة والفعل ، ولذلك أمثلة كثيرة لكل من يرغب في الفهم ووضوح الرؤية :

فالشعب الفلسطيني في انتفاضته الأولى والثانية وربما المائة القادمة ( إن استمر الحال على ما هو عليه ) ، لم يقاطع البضائع والمنتجات الإسرائيلية ،على الرغم من وجود بدائل كثيرة من الإنتاج الوطني ، والتي يمكن أن تقوم مكان تلك البضائع والمنتجات ، ولم يقاطع الفلسطينيون ميادين العمل في إسرائيل ، بل شاركوا في بناء ما صار يعرف بالمستوطنات ، كما شاركوا في بناء الجدار المسمى ( الجدار الآمن ) ، وشاركوا في بناء اقتصاد جلاديه ومغتصبي حقوقه ، فمن يتحمل ذلك بأمانة تاريخيا وثوريا ؟ .

لقد كان من نتائج الانتفاضتين :

1-                   قتل أكثر من عشرين ألفاً ، وجرح أكثر من خمسين ألفا حتى الآن ، والحصاد السياسي صفراً .

2-       أضرار كبيرة في الاقتصاد والأملاك ، والممتلكات وتجريف المزارع ، وتدمير المصانع ، وتُقدر الأضرار بعشرات مليارات الدولارات.

3-                   إغلاق المنافذ الحدودية بعد أن تم إزالتها بالكامل قبل ذلك  .

4-                   إغلاق جميع المعابر الحدودية بسبب إطلاق النار بالقرب منها .

5-       سقوط الضحايا والأبرياء من الفلسطينيين بفعل صواريخ المقاومة الارتدادية على رؤوس المساكين الفلسطينيين بسبب نقص خبرة مطلقيها .

6-                   حصار قاسي وفقدان كل شيء تقريبا حتى الدواء .

7-                   قطع الكهرباء شبه الدائم مما أدى إلى مزيد من المعاناة .

8-                   فقد عشرات ألوف العمال أعمالهم ووظائفهم  .

9-       قتل الكثير من الأبرياء الفلسطينيين على أيدي المقاومة ، بقرار حكم الإعدام ، تقطيعا بالسكاكين والسواطير ، ومن ثم تمت تبرئتهم فيما بعد بقرارات تنظيمية . (وبدون تعليق )

10-     قدوم السلطة إلى أرض الوطن ، وكان بسبب هذا القدوم مزيد من إرهاق الشعب الفلسطيني ؛ بسبب ما وقعت فيه من مخالفات وأخطاء كبيرة جدا .

ومن الحق القول : بأن حياة الدعة والراحة لا يمكن أن تعيد الحق لأهله ، لكنه من الحق القول أيضاً : انه لا يمكن تكليف شعب عبء مرحلة لم تُجهز لها القيادات تجهيزا سليما ، لا من قبل ولا من بعد ، خاصة في مثل الظروف والمناخات السائدة في قطاع غزة .

صحيح أن لكل تضحية ثمن ، وصحيح أن لكل ثورة أثمان ، ولكن من غير الصحيح أن تعجز القيادات عن إدارة دفة السفينة نحو الأمان ؛ لكي لا ترتطم بالصخور .

لكل ما سبق ، ومن أجل تصحيح المسار فإنني أدعو من جديد إلى إعادة النظر في برامج التعبئة والتنظيم ، والإعداد والتوجيه ، وتوفير كافة أشكال الصمود للشعب المنكوب بنكبات متلاحقة ، وتفعيل العمل المقاوم بكافة أشكاله ، وادعوا إلى المحاسبة والشفافية ، وإلى مراجعة حساباتنا من جديد ، كما أدعو إلى ضرورة الاتفاق على برنامج وطني ومرجعية واحدة ، وتغليب اعتبار المصلحة الفلسطينية العليا على كل اعتبار آخر، وطرح الخلافات جانبا ، وطي صفحة الماضي السوداء بكل ما فيها .