النكبة والبلية في أصول تدجين الرعية

النكبة والبلية

في أصول تدجين الرعية

مصباح الغفري

حدثنا أبو يسار الدمشقي قال :

اعتقلت في عهد كافور، مع صديقي أبو جعفر المنصور . وما أن أغلق علينا السجان الباب، حتى لمحت في السجن بعض الصحاب . فهذا هو الماغوط الشاعر، يتبادل الحديث مع زكريا تامر . وهذا سلطان أبا زيد ، وراء قضبان الحديد . وجلس في ركن بعيد، سركيس بـن  فريد . يحلل الأوضاع ويغربل الناس، من الشام إلى جبال الأوراس .

كان المعتقلون بالمئات، من مختلف الأفكار والاتجاهات . وجميعنا متهمون بالخروج، على حكم المتسلطين العلوج . وأننا نحرض المستضعفين والعبيد، ضد جلالة كافور بن إخشيد . ونقول في ولي الأمر، في السر والجهر ، ما لم يقله مالك في الخمر. وعقوبة هذه التهمة هي الإعدام، أو التوبة عن انتقاد النظام !

وقضينا زمناً طويلاً في الحبس، نعاني من الضجر والإذلال والبؤس . إلى أن جاء العسس ذات يوم، ومعهم رجال من علية القوم . فأخرجوا أبا جعفر من القاووش، وانهالوا عليه بالضرب كالوحوش . ثم وجه إليه أحد الضابط السؤال، وطلب منه الإجابة في الحال :

ـ لماذا نقضت بيعة سيادة الرئيس، أيها النذل الخسيس ؟

أجاب أبو جعفر بشجاعة :

ـ لأن سيادته خرج عن رأي الجماعة . ونشر القمع والإرهاب، وأعمل السيف في الرقاب .

قال الضابط على مهل، أنصحك أن تثوبَ إلى العقل . فأعْلن التوبة على رؤوس الأشهاد، وعِش مثلك مثل باقي العباد !

أجاب أبو جعفر : الموت والله أفضل، من أن أتخاذل وأتبهدَل !

وهنا أشار الضابط إلى مسرور السياف، أن افصل رأس هذا الرجل عن الأكتاف . فصاح السياف الله أكبر، وبضربة واحدة طار رأس أبي جعفر . ونحن ننظر إلى المشهد الرهيب، وقلوبنا تخفق من الفزع والوجيب .

وراح الضابط يخرج المعتقلين ويسأل، والجميع يجيبون كجواب الأول . والسياف يقطع الرؤوس فتتدحرج، وأنا أكاد أجن وأفلج . إلى أن نادى سيادته أين الرجل المهذار، المدعو أبو يسار ؟

فصحت وأنا أتميز من الخوف والقهر، أنا هنا يا طويل العمر! وقبل أن تبدأني بالسؤال والتحقيق، أقر بأنني كافر نعمة مولانا وزنديق !  وأن انتقادي للحكام الأفاضل، دليل على أنني مجنون وجاهل . وها أنا أعلن توبتي عن الهذر والكلام، وأقسم أنني بعد اليوم لن أنتقد النظام .

فنظر الضابط إلي وقال بحقد، كيف حدث أنك ثبت إلى الرشد ؟ ومن أين جاءتك القناعة، وأنت أرذل واحد في هذه الجماعة !

 

قلت : أقسم برب العباد، أنني زاهدٌ في الاستشهاد ! وهذه الرؤوس التي فصلت عن الرقاب، جعلتني أنظم قصيدة بمدح الإرهاب . فقل لسيادة رئيسنا المعظم كافور، أن أبا يسار بعد اليوم لن يثور . وأنا مستعد لأن أكون شاعر البلاط والحَمّام، كي لا أذوق الردى والحِمام !

قال : توبتك إذن من الرهبة، وليست من القناعة والرغبة !  لذلك سنبقيك قيد الاعتقال، ونصادر ما لديك من المال . وليس لك من السجن خلاص، إلا إذا أثبت الولاء والإخلاص .

قال أبو يسار الدمشقي :

وبقيت في السجن عدة أعوام، أستمع إلى الخطابات القومية على الدوام . وأقرأ جرائدَ حزب القائد ، وخطابات الرفيق المناضل الرائد . حفظت قصائد صابر فلحوط ، وأنشدتها مترنماً بصوت ممطوط . تفننت  في إظهار الطاعة والولاء ، حتى أصبحت كالببغاء، لكي أخرج من المحنة والبلاء !

ولما أصبحت من فصيلة الدواجن والخراف، وأصبت باللوثة والارتجاف . أفرج عني من السجن الصغير، فخرجت إلى السجن الكبير . وصِرت أخرج من الدار، فأمشي من الجدار إلى الجدار، وأقول يا رب يا ستار .

وزفر أبو يسار، ثم أنشد هذه الأشعار :

أيملك المُلكَ والأسيـاف ظامئـة    والطيرُ جائعـة، لحمٌ على وَضم

مَن لو رآني ماءً مات من ظمـأ    ولو عَرضت له في النـوم لم يَنم

ميعادُ كل رقيق الشفرتين غداً    ومَن عصى من ملوك العُرب والعَجم