رسالة من غزة

الأب منويل مسلم

راعي كنيسة اللاتين في غزة هاشم الباسلة الصامدة

الأب مسلم: إن فرض علينا الموت فلن نموت الا شرفاء شجعان أقوياء

استلم الأخ إبراهيم عبيد، نائب رئيس تحرير (المحرر) يوم 16 من كانون أول 2009 الجاري رسالة من ابن خاله الأب منويل مسلم راعي كنيسة اللاتين في غزة هاشم الباسلة الصامدة، ننشر منها الفقرات التالية:

ما ترونه على شاشات التلفاز وما تسمعونه ليس كل الحقيقة المؤلمة التي يمر بها شعبنا في غزة. لا يستطيع التلفاز ولا الراديو نقل كل الحقيقة لاتساعها على أرضنا، فحصار غزة المرير تحول إلى إعصار يتنامى كل ساعة حتى أصبح جريمة حرب بل جريمة ضد الإنسانية. وإن كان شعب غزة اليوم يقدم مأساته إلى محكمة ضمير كل إنسان "فيه المسرة"،  فأن الزمن الآتي هو زمن محكمة الله العادلة.

أطفال غزة مع ذويهم  ينامون في ممرات البيت إن وجدت أو غرف (التواليت) والحمامات لحمايتهم.. يرتجفون من الخوف عند كل صوت وحركة وقصف مدفعي، كما من القصف العنيف التي تنفذه طائرات (أف 16)، ومن جراء هذا القصف تتعرض البيوت إلى ضرر كبير إذا لم تتدمر وفي كلا الحالتين يموت الأطفال والنساء والمسنين، وأن أطفالنا يعيشون حالة "التروما" والرعب وهم مرضى من هذا ومن غيره مثل نقص الغذاء وسوء التغذية والفقر والبرد..

وأن المآسي التي تحدث في المستشفيات فحدث عنها ولا حرج، هذه المستشفيات لم يكن فيها الإسعاف الأولية قبل الحرب العدوانية والآن يتدفق عليها آلاف الجرحى والمرضى والحوادث حتى أنهم يجرون العمليات في ممرات المستشفيات ويرسلون كثيراً منهم إلى "معبر رفح" إلى مصر ومن يعبر منهم قد لا يعود، لأنه بعضهم يموت في الطريق، وحالة الشعب في المستشفيات مرعبة ومحزنة.

وأحب أن أورد لكم قصة صغيرة في المستشفى حصلت مع عائلة عبد اللطيف، فقد اختفى أحد أبنائها أثناء القصف الأول وبحث عنه أهله ولم يجدوه في اليوم الأول والثاني للعدوان، وفي اليوم الثالث أثناء تجول العائلة في المستشفى وجدوا أسرة من عائلة جرادة تحيط بأحد أبنائها الجريح المشوه، هذا الجريح قطعت إحدى ساقيه، وكان وجه هذا الجريح مشوهاً ليس بسبب إصابته من الطائرات ولكن بسبب سقوط الزجاج عليه وهو في المستشفى بعد أن قصفت الطائرات جزءا منه، تقدمت أسرة عبد اللطيف لتواسي عائلة جرادة وحين اقتربوا من الجريح اكتشف السيد عبد اللطيف أن الجريح ابنه وليس ابن عائلة جرادة، ووسط الخلاف العائلي انتظروا أن يستيقظ الجريح ليقول اسمه وتأخذه عائلته "عبد اللطيف" من عائلة جرادة التي كانت تحيط به.. هكذا.

اختصر رسالتي إليكم برفع معاناتنا إلى الله وإليكم.. فشعبنا في غزة يعامَل معاملة حيوانات في حديقة حيوانات، دون أكل وماء ودون دواء وإذا وجد بعض الأكل فأنه لا يكفي، ويبكي ولا أحد يمسح دموعه.. لا ماء ولا كهرباء ولا غذاء في ظل الخوف والرعب والحصار.. البارحة رفض المخبز أن يعطيني خبزاً، والسبب أن الرجل رفض أن يطعمنى من طحين لا يليق بالإنسان لئلا يحتقر كهنوتي، فقد فرغ الطحين الجيد من عنده وأصبح يقدم ما يتوفر لديه من طحين غير لائق بالإنسان.. أما أنا فأقسمت ألا آكل خبزاً طيلة هذا العدوان.

نريد منكم أن ترفعوا إلى الله صلواتكم الحارة والمتواصلة في كل قداس يقام أو خدمة وتذكرون أمام الله معاناة غزة.. أرسل رسائل قصيرة إلى أبنائنا من الكتاب المقدس لرفع حرارة الرجاء في قلوبهم.. وقد اتفقنا أن نصلي جميعنا في رأس كل ساعة هذه الصلاة: (يا رب السلام أمطر علينا السلام.. يا رب السلام أمنح بلادنا السلام.. ارحم يا رب.. أرحم شعبك ولا تسخط عيلنا إلى الأبد). فأرجوكم أن تقفوا الآن وترنموها معنا.

صلواتكم معنا قد تحرك العالم كله، وتعلمه بأن أية محبة تتوقف في الطريق ولا تصل إلى أخوتكم في غزة هي ليست من محبة المسيح والكنيسة.. لأن محبة المسيح والكنيسة لا تعترف بالعوائق السياسية والاجتماعية والحروب وغير ذلك.. حين تصل محبتكم إلينا تُشْعرنا بأننا في غزة جزء لا يتجزأ من كنيسة المسيح الواحدة، الجامعة المقدسة، وأن أخوتنا المسلمين بيننا أهلنا وقدرنا،  لنا ما لهم وعلينا ما عليهم نحن شعب فلسطين.

وفي وسط كل ذلك لا يزال شعبنا في غزة يرفض الحروب كوسيلة "للسلام"، ويؤكد أن "طريق السلام هو السلام".. وأننا في غزة صابرون.. وقد قررنا في نفوسنا أنه (بين العبودية والموت لا خيار لنا).. نحن نريد أن نحيا لنسبح الرب في فلسطين، ونشهد للمسيح.. ونريد أن نحيا لفلسطين، وإن فرض علينا الموت فلن نموت إلا شرفاء.. شجعان.. أقوياء.