السلطان العثماني فى غزة!
السلطان العثماني فى غزة!
أ.د. حلمي محمد القاعود
في أثناء مداولات مجلس الأمن الدولي بنيويورك الأسبوع الماضي ( أوائل يناير 2009م ) ، راح وزراء الخارجية العرب يبحثون عن وزير خارجية فرنسا ( برنارد كوشنير ) ، من أجل التصويت على قرار المجلس الذي حمل رقم 1860 . وكان الوزير قد اختفى فجأة ، ولم يعثروا له على أثر ، لدرجة أن سأل عنه الوزراء بعض المراسلين : ألم تروا وزير خارجية فرنسا ؟
المشهد المضحك في وقت البكاء ، انتهى في غرفة بأحد فنادق نيويورك حيث كان الوزير الفرنسي ، يحادث رئيسه في مهاتفة عاصفة ، لأن الوزير لم يستطع تأجيل التصويت على القرار حتى يحضر الرئيس ، ويشرف بنفسه على عملية التصويت ، حيث يقدم عرضا إعلاميا ( شو ) ، وتلمع أضواء الكاميرات على وجهه بوصفه عرّاب اللحظة ، ويدشن نفسه زعيما له مكانته بالنسبة للفرنسيين والعالم ، وأمامه العرب يقبلون قراراً مخزياً يتحدث عن وقف إطلاق النار ، ولا يوقف النار ، وتباركه الولايات المتحدة بالامتناع عن التصويت ، ويعود الأشاوس والنشامى من وزراء خارجية الدول الأعضاء في مجلس الأمن يعلقون على القرار الباهت الذي لم يُحرّك شعره في رأس الإمارة النازية اليهودية الغاصبة في فلسطين ، وكانت تعليقات الأشاوس والنشامى العرب " أخزى " من القرار الكسيح .. إلا وزير خارجية تركيا ( على بابا جان ) فقد كان أكثر عروبة من العرب وأقوى إسلاماً من المسلمين ، وتكلم بوضوح وصراحة عن عجز القرار عن وقف إطلاق النار ، ومعاقبة المعتدى ، وأعلن عن إحساس بلاده بالخيبة الكبرى لأن الدول الكبرى تتآمر على شعب فلسطين ، وتدعم الإمارة النازية اليهودية الغازية ، وأن بلاده توافق على القرار مرغمة !
هذا المشهد العبثي في ردهات الأمم المتحدة كان يقابله مشهد آخر أكثر مأساوية في بلاد الشرق الإسلامي .. حكومات الأمة العربية تتحصن بالحكمة والعقلانية ، لدرجة مقاتلة شعوبها البائسة في الشوارع بسبب خروجها إلى التظاهر والاحتجاج على المذبحة المستمرة في غزة ، وحصار المذبوحين من البحر والجو والبرّ ، ومنع الطعام والدواء والوقود ومقومات الحياة الأساسية عن السكان المساكين بينما آلة القتل النازي اليهودي تعمل بكل وحشية على مدار الساعة .
لم يستطع الأشاوس والنشامى العرب أن يعقدوا قمة يصدرون من خلالها بياناً إنشائياً باستنكار المذبحة ، وكان ساركوزى وليفنى وأولمرت وصحف العدو ، كلها تؤكد على أن الزعامات العربية أو كثير منها سعيد بالمذبحة ، والقضاء على المقاومة في غزة ، ويرجو عدم السماح لها بالانتصار .. ومما جعل الأمر مؤكداً أن صحف الأنظمة العربية المعتدلة والممانعة ، لم تقصر في واجب الردح والشتائم المتبادلة وفرش الملاية بأحط ما عرفته اللغة من بذاءة وفحش واتهام للآخرين بالخيانة والعمالة والتجسس ، وتحوّلت المذبحة في الإعلام العربي المأجور إلى صراع مع جهات أخرى غير التي تقتل الأطفال والنساء ، وتدمر البيوت والمساجد والمدارس ومقرات الأمم المتحدة في غزة الذبيحة ..
وحده السلطان العثماني ينتفض من أجل فلسطين وشعبها ، ويدين اليهود الغزاة القتلة بكل قوة ، ويتوعدهم بموقف ( دبلوماسي وسياسي ) حازم ، لأنهم خدعوه وأزروا به وضحكوا عليه ، وهو ما لا يقبله " أردوغان " وحكومته وشعبه .
آخر من كان يتوقع منه الغضب والثورة على الإمارة اليهودية النازية الغاصبة ، حكومة أنقرة التي أسسها أتاتورك العلماني الموالى للغرب ، المعادى للإسلام والعروبة ، ولكن الأقدار كان لها رأى آخر ، فقد ظهر على حين غرة ، حفيد السلطان العثماني " رجب طيب أردوغان " لا يخجل من هويته وانتمائه ويعلن على الدنيا أنه زعيم لأحفاد العثمانيين ؛ وعلى الغزاة الصهاينة أن يعلموا أنه ليس زعيماً لدولة عادية ، وأنه يتحدث بالسياسة وليس بالعاطفة ، وإذا كان عليه أن يفعل ذلك فسيتعاطف مع أهل غزة ، ثم يصف الهجمات اليهودية النازية بأنها وصمة عار في جبين الإنسانية وبقعة سوداء في صفحات التاريخ ، ويذكر القتلة النازيين اليهود بأن العثمانيين استقبلوا أجدادهم وقدموا لهم المساعدات والحماية ، بعد أن عذبتهم وحاصرتهم وقتلتهم محاكم التفتيش الصليبية في الأندلس ، بعد أن طاردهم هتلر والحكومات الغربية في أوربة..
الأهم من ذلك كله أن السلطان العثماني الجديد ، كان حاداً وقاطعاً في تبرئة " حماس " من مسئولية الحرب الفاجرة التي شنها النازيون اليهود الغزاة ، وأبطل خرافة ما يقولون حول الدفاع عن النفس ، وأكد أن المزايدات الانتخابية في الكيان الصهيوني الغاصب هي التي تقف وراء المجازر التي يشهدها قطاع غزة منذ يوم السبت السابع والعشرين من ديسمبر 2008م حتى كتابة هذه السطور . قال أردوغان : إن الغزاة لم يلتزموا بالتهدئة ، ولم يرفعوا الحصار عن القطاع ، وأنهم الذين استفزوا حركة حماس التي التزمت بالتهدئة التزاماً كلياً .
كشف أردوغان رفض اليهود الغزاة عرضاً تركياً للوساطة مع حماس بعد انتهاء التهدئة ، وأنه أخبر أولمرت فى زيارته لأنقرة قبل العدوان بأيام قليلة بعرضه لتمديد التهدئة إلا أن السفاح النازي اليهودي راوغه وأخبره أنه سيبلغه بالرد بعد التشاور مع وزرائه ، وبدلاً من أن يرد هاجم أهل غزة بعدوانه الهمجي ، ولذا عد أردوغان ما جرى للسفاح إهانة وتعبيراً عن عدم احترام تركيا ! وقال : " إنني أعنى الكثير الذي يجب أن يقرأه الصهاينة بين السطور " ! وإن عليهم أن ينتبهوا لأنهم يسيرون فى الطريق الخاطئ ويعملون على إضعاف علاقتهم مع دولة صديقة مثل تركيا !
السلطان العثماني الجديد ، عبّر عن موقف أكثر نخوة من مواقف بعض الأشاوس والنشامى الذين فضلوا أن يجعلوا " حماس " شيطاناً مريداً يجب القضاء عليه لأنه سبب المصائب والمتاعب فى المنطقة من منظورهم الاستسلامي العجيب !
ثلاثون عاماً من الكلام الماسخ السخيف عن " السلام " وتجليات السلام ، وفوائد السلام ، ولكن أحداً فى بلادنا لم يجد أثراً لهذا السلام .. ومع ذلك فإن الأبواق المأجورة ما زالت تتحدث بالبجاحة وصفاقة الوجه عن السلام وإستراتيجية السلام ومستقبل السلام . ثلاثون عاماً من الدم والقتل والتدمير يقوم بها جيش الغزاة النازيين اليهود ضد الفلسطينيين واللبنانيين والسوريين والعرب ، والأشاوس والنشامى يصرون على إستراتيجية السلام ! يا سلام ؟
رجب طيب أردوغان ، طالب بمعاقبة الكيان النازي اليهودي لعدم انصياعه لقرار مجلس الأمن بوقف إطلاق النار ، ومحاصرته وفرض عقوبات اقتصادية عليه ، ولكن قادة الأمة – حماهم الله – لم يعلموا حتى الآن أن ضحايا المجزرة قرابة ألف شهيد وخمسة آلاف جريح ، ويفضلون السكوت لأنه من ذهب !!.. يا أمة ضحكت من " سلامها " الأمم !