تجليات الضعف والهزيمة !
تجليات الضعف والهزيمة !
أ.د. حلمي محمد القاعود
كان الرجل البسيط الذي يعمل معلماً في إحدى المدارس ؛ يجلس أمام الشاشة الفضية الصغيرة ، يتابع الأنباء والأخبار ، فرأى طائرات الإمارة اليهودية الغاصبة ؛ تلقى بصواريخها على البيوت الآمنة والمساجد الخاشعة ، فتفجر وتدمر وتقتل ، وصوت الصرخات يتعالى ، والضحايا يستغيثون ، ومنظر الجثث المستخرجة من بين الركام يمزق القلوب ويهز الضمائر ، وخاصة جثث الأطفال الصغار ، والأشلاء المبعثرة .. الرجل البسيط أحسّ بهول الجريمة التي ترتكبها الإمارة اليهودية النازية ، فلم يحتمل قلبه مواصلة النظر والرؤية ، وتوقف القلب ، وأغفى الرجل إلى الأبد ! وكان موته مجرد خبر في بعض الصحف ، عبرت عليه آلاف العيون دون أن تتوقف !
على الجانب الآخر ، كانت الأنباء تنقل خبراً مخزياً ومؤلماً ومثيراً للإحساس بالعار ، فقد كان معلم آخر ، بدرجة أستاذ ورئيس جامعة إقليمية ، يقود مظاهرة من بضع عشرات من الأساتذة والمعيدين والطلبة ، ضد منظمة " حماس " التي تقاتل العدو النازي اليهودي وتدافع عن شعب غزة العربي المسلم الذي يتعرّض للموت والإبادة الجهنّمية بأحدث الأسلحة والصواريخ والقذائف التي يسمونها عنقودية أو ذكية ..
المعلم الأستاذ رئيس الجامعة خرج مدفوعاً بسبب لا نعلمه نحن القراء ، ولكن يمكن تخمينه في أحد أمرين ، الأول أن جهات أمنية أوحت إليه أن يقوم بهذه التظاهرة ، لتجلب تأييداً من مسئول تعليمي عالٍ للسلطة المرتبكة المتورّطة في وضع سياسي وخلقي لا تحسد عليه ، جعلها تبدو في نظر الشعوب العربية ، وليس الشعب المصري وحده ، شريكاً متضامناً مع العدوّ في حملته الدموية الإجرامية التي تتغيّا استئصال المقاومة الفلسطينية ، وإعادة الهيمنة الدحلانية إلى قطاع غزة المنكوب .
الآخر هو أن المعلم الأستاذ رئيس الجامعة المحترم ، فكّر في القيام بهذه المظاهرة من تلقاء نفسه ، ليثبت ولاءه للسلطة الأمنية التي أتت به أو وافقت على الإتيان به إلى منصبه الإداري الرفيع؛ وهو منصب يختلف عن بقية المناصب الإدارية الأخرى في الجامعة ، فهو مضاعف البدلات كثير العوائد ، استثنائي الامتيازات ، يمنح صاحبه " وضعاً " خاصّاً ، ومكانة تهفو إليها القلوب والنفوس .. مَن مِن الزملاء لا يتمنى أن يكون له طاقم سكرتارية هائل وسائق خاص وسيارة سوداء فخمة ، وانتباه للحرس عند الدخول والخروج من بوابة الجامعة ؟
الرجل المتظاهر ضد المقاومة حريص على كل ذلك وغيره ، ولا يجد فيما يفعله غضاضة أو خروجاً على السياق ، أو مخالفة للضمير الحىّ ، حتى لو كان الضحايا في غزة يشيرون إلى عار يلحق العرب والمسلمين جميعاً بسبب تقصيرهم وقعودهم عن الدفاع عن كرامة أمتهم وأوطانهم وشعوبهم أمام الوحشية النازية اليهودية !
في وقت مظاهرة الأستاذ رئيس الجامعة ، كان العالم كله من الغرب حيث تشيلي وفنزويلا والإكوادور وغرب الولايات المتحدة حتى الشرق حيث استراليا وإندونيسيا والفلبين ، مروراً بالعواصم الغربية والإفريقية والآسيوية ، يتظاهر ضد الخسة اليهودية والوحشية اليهودية والنازية اليهودية ، ويخرج أناس ليسوا بعرب ولا مسلمين ، ليعلنوا رفضهم لأنهار الدم في شوارع غزة ، ولتدمير بيوت غزة ، ومساجد غزة ، ومعاهد غزة ، ومؤسسات غزة دون جريمة ارتكبها أهل غزة اللهم إلا مقاومة الغزو النازي اليهودي الغاصب لما تبقى من بلادهم وأرضهم وكرامتهم !
ولكن الأستاذ رئيس الجامعة آثر أن يتظاهر في الاتجاه المعاكس ، ويقدم عربون الولاء للسلطة على حساب دماء الضحايا الأبرياء ، الذين لا يجدون حيلة ولا يهتدون سبيلا . صحيح أن أجهزة الدعاية الرسمية والصحف الحكومية تقوم بالتغطية على ورطة النظام وانهياره السياسي أمام العدوّ النازي اليهودي الغاصب في فلسطين المحتلة ، بفرش الملاية صباح مساء لمنظمة حماس ، وتحميلها مسئولية العدوان النازي اليهودي على أهل غزة العزل ، ولكن هذا لا يسوّغ لأستاذ جامعي يرأس جامعة بأكملها تضم ما لا يقل عن ألفى أستاذ يعتمدون في كلامهم وقراراتهم ، فضلاً عن بحوثهم على شيء اسمه المنهج العلمي بوسائله المتعددة ، فهل اتخذ السيد الأستاذ رئيس الجامعة موقفه بناء على منهج علمي ؟ وهل عرف معنى التظاهر ضد نفر من بني أمته والعدوّ يذبحهم ذبح النعاج ؟
لا ريب أن سيادته اندفع بقرار لا يمت للمنهجية بصلة ، فهو إما مأمور من الأمن ، أو مندفع بالبحث عن مصلحته الخاصة أو الشخصية ، وكلاهما عمل يسيء للأستاذ الجامعي ، ويقلل من كرامته ويهدم كيانه الأكاديمي .
ماذا يقول الناس حين يقارنون بين المعلم البسيط ، والمعلم الأستاذ ورئيس الجامعة ؟
الأول مات كمداً وحسرة على ضحايا غزة الأبرياء ، والآخر يتظاهر ضدهم ويتجاهل دماءهم وأشلاءهم بقلب ميت لا حياة فيه ؛ بدلا من القيام بواجبه دفاعا عن الضحايا وحثا للسلطة المنهارة على التماسك واتخاذ زمام المبادرة وردع المعتدين الطغاة كما يفعل أهل العلم في كل زمان ومكان!
قبل سنتين أو ثلاثة ، كان أحد أسلاف الأستاذ رئيس الجامعة الحالي ، يهبط من مكتبه ليفتتح أحد المشروعات الجامعية ، فقابله ضابط صغير من الحرس الجامعي صاعدا السلم فما كان من الأستاذ رئيس الجامعة الموقر إلا أن خاطب الضابط الذي في عمر ابنه :
- اطلع وللا أنزل ؟
يقصد الأستاذ رئيس الجامعة : هل يصعد مع الضابط ، أم يستأذنه ويواصل هبوطه ليفتتح المشروع الجامعي ؟
وما كان من الضابط إلا أن أشاح بيده ، حسب ما قالت الأنباء حينئذ ، وقال لأستاذ الجامعة الذي في عمر أبيه ، فضلاً عن مكانته العلمية :
- اطلع .. إنزل .. إنت حرّ..
ومضى الضابط صاعداً دون أن يعبأ بسيادة الأستاذ رئيس الجامعة !
والسؤال الآن : هل أمثال هذا الأستاذ الجامعي رئيس الجامعة ، يحقق لبلاده جودة التعليم التي يتحدثون عنها ليل نهار ؟ هل يمكنه أن يصل بجامعته إلى ترتيب متقدم ضمن المائة جامعة الأولى في العالم ، أو المائتين أو حتى الخمسمائة ؟
بالتأكيد فإن أمثال هذا الأستاذ رئيس الجامعة لا يستطيع أن يحقق أي تفوق لجامعته لأن مثله لا يملك من أمر نفسه شيئاً ، فأمره موكول إلى ضابط كبير أو حتى أمين شرطة ، ولا يستطيع أن يتحرك إلا بأوامره .
هل نستطيع أن نقارن هذا الأستاذ رئيس الجامعة بالأستاذ الذي كان قبل العهد الثورى التقدمى التنويري ، يرفض أن يستجيب لتوصية بسيطة من رئيس الوزراء ؟
الإجابة بالنفي .. فهذا زمان الضعف والهزيمة وخيبة الرجال ؟