دماء مسفوكة .. على أعتاب العام الجديد
دماء مسفوكة .. على أعتاب العام الجديد
فاطمة فاروق مشوح
قبل يومين طوينا صفحة من صفحات التقويم كانت قد أنهت عاماً هجرياً مضى ، وابتدأت بآخر ، وبعدها بيومين طوينا أخرى أنهت عاماً ميلادياً مضى ، وابتدأت بآخر ؛ عامٌ هجري وآخر ميلادي ، مضيا بكل ما فيهما من دماءٍ وجراحٍ وآهات ، فالعام الهجري يذكرنا بهجرة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – هجرةٌ أشرقت على الدنيا كما تشرق شمس الضحى لتبعث الدفء والأمل والنور والضياء . فهجرته – صلى الله عليه وسلم – كانت لتطوي صفحة مظلمة من صفحات الظلم والاستبداد والقهر ولأجل إعزاز الدين و نصرة الأمة المسلمة المستضعفة .. وفي سبيل انشاء أمة تخط نهج الحياة ، وتشيد البناء للحضارة الإنسانية . وميلاد المسيح – عليه السلام – هذا النبي الذي يدعو إلى التسامح والمحبة والإخاء – كان ميلادا للإنسانية جديدا ، فالإنسان هو غاية الدعوتين وهدف الرسالتين ، فتلتقي من هنا دعوته مع دعوة أخيه محمد – صلى الله عليه وسلم –
إذاً عامان جديدان ، ولا جديد في غزة هاشم إلا الحصار والخوف والموت ، نعم ما زالت غزة تحت القصف ، وتحت النار ، تنزف دماً وتئن ألماً ، فماذا عسى الأقلام أن تخط في صفحة هذين العامين ودماء الجرحى وأشلاء القتلى وصرخات الأيامى والثكالى ينطقون بوحشية عدوٍ لايرقب فينا إلاّ ولا ذمة ، وصمتٌ عربي مهين كصمت القبور ، ومعبرٌ هو المنفذ الوحيد لدخول المساعدات والمعونات قد أُغلق بأمرٍ من حكامٍ أداروا ظهورهم للمعبر ولمن خلفه من شعب أبي حر ، وأصموا آذانهم عن عبارات اللوم والعتاب والمناشدة ، وفتحوا بلادهم وقلوبهم لعدوٍ يحرض على إخوانهم من على أرضهم .
فبعد ستين عاماً على تأسيس الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والذي اتفق عليه بعد نكبة فلسطين ، ما زالت تنتهك وبشكلٍ صريح كل اتفاقيات الأمم المتحدة التي تنص على احترام الإنسان وحقوقه ، وكأنهم يريدون من وراء كل هذه الاتفاقيات إسكاتنا وإشغالنا بهذه الشعارات الزائفة والتي لم تطبق على أرض الواقع . ونحن .. - آهٍ من هذه الكلمة التي تدل على الجمع والاتحاد- ثلاثمائة مليون عربي !! لم أكن أظن بعد أن يأتي يوم يقف فيه ثلاثمائة مليون عربي حيارى لا يجدون حيلة ولا يهتدون سبيلا يخرجهم من حالة اليأس والقنوط ، هل تكفي هذه المظاهرات التي خرج فيها مئات الآلاف من المحيط إلى الخليج ؟ هل تجدي نفعاً ؟ هل تدفع وترد قصف الطائرات والصواريخ عن أهلنا في غزة ؟ أقول : إن هذه المظاهرات الحاشدة لا تكفي بالطبع ولن ترد رصاصة واحدة عن طفل يلعب أمام بيته ، ولن تقف حاجزا يرد عن أهل غزة صواريخ المقاتلات وقذائفها ولن تردع هذا الصهيوني المتبختر الرافل بثوب العنجهية والكبر عن صلفه وعدوانه ، ولكني أقول أيضا إن هذه المظاهرات تبعث الأمل في نفوسنا بأن هناك أشخاصاً يدافعون عن قضيتهم بقدر استطاعتهم ، ويوصلون بدورهم رسالةً إلى الحكام بأن الشعوب حية ولا يمكن إخماد ثورتها ، وإرهابها بالسجون والمعتقلات . والمظاهرات كذلك تنفس من غضب الشارع العربي ، وتشعره وهو واقف على قدميه في هذا البرد القارس وأمام هذه الجيوش التي تصطف لردعه إن خرج عن المسار المتفق عليه أو أخل بأحد الشروط التي قبل بها طائعا أو كارها ، بشعور إخوانه الذين يقفون امام جيوش البطش في غزة أو في أي مكان كانوا فيه .
فالمظاهرات التي خرجت في أغلب الدول العربية والإسلامية والكثير من دول العالم وكذلك المهرجانات الخطابية بالتأكيد أنها أحيت في نفوس أهلنا في غزة الأمل بأن لهم إخواناً يساندونهم ويقفون معهم في مصابهم ويحاولون تضميد جراحهم ولو بالكلمة ، وهنا أحب أن أشير إلى المهرجان الخطابي الذي دعت إليه الحركة السلفية في الكويت وشارك فيه العديد من نواب الشعب الكويتي ، فقد أثار اعجابي كثيراً الحماس الذي سيطر على مشاعر الخطباء والمتحدثين والروح التضامنية التي أظهروها ، وكذلك الأمسية الشعرية التي أقيمت في قطر وتحدث فيها عدد من شعراء الجزيرة العربية وعلى رأسهم الشاعر الدكتور عبد الرحمن العشماوي – حفظه الله- فهو دائماً يناصر قضايا أمته من خلال قصائده العاطفية والإنسانية . فالمظاهرات إذاً تلهب فينا مشاعر الحماس التي تخبو من وقتٍ لآخر نتيجة ظروفٍ معينة . ومن باب أن الشيء بالشيء يذكر ، أرجعتني هذه المظاهرات إلى سنواتٍ مرت ، هبت فيها الجماهير المسلمة في قضيةٍ من قضايانا العادلة ألا وهي معركة الفلوجة ، وتشجيع الشارع العربي للبطولات المذهلة ، والنصر المؤزر الذي حُسمت به المعركة للمجاهدين الأبطال ، وكنت أذكر وقتها أن أهل غزة انتفضوا وثاروا من أجل نصرة الفلوجة وكان على رأسهم الشهيد البطل الدكتور عبد العزيز الرنتيسي رحمه الله فقد كان يقود المظاهرات ويهتف الهتافات الحماسية المؤيدة والمبارِكة لجهاد أهل الفلوجة .
هذا من جهة الشعوب وما يجب عليها أن تقوم به ولكن الدور الكبير يقع على عاتق الزعماء ، فمن المفروض اتخاذ مواقف جادة وصارمة ، وحلول جذرية ليس أقلها قطع الصلات التجارية والسياسية مع الكيان الصهيوني ، وطرد السفراء الصهاينة من بعض الدول العربية وإنهاء الحصار وفتح المعابر كلها ، هذا أقل ما يجب علينا عمله إزاء قضية لها الصدارة بين قضايانا وتحتل المكان الأبرز .
أما مجاهدو غزة ، فلهم منا كل الإجلال والاحترام وتقبيل الرؤوس وأقول : سلمت يمينكم يا أبطال غزة فأنتم اليوم – وكل يوم – تدافعون عن شرف الأمة كلها وتضحون بأرواحكم الغالية لتسلم أرواحٌ لنا وعقولُ وأقول أيضا صبوا زيتكم اللاهب على الصهاينة وأحرقوا ديارهم وأموالهم وأهلهم وردوا عنكم وعنا كيدهم ودافعوا عن شرفكم وشرفنا وأعيدوا لنا الكرامة السليبة ببسالةٍ وبطولة كما عهدناكم. فأنتم الفاتحون الجدد ستغيرون وجه التاريخ وتقلبون موازين اللعبة السياسية لصالحكم ، وتنفضون عن أمتكم غبار الوهن والضعف ، إذ إنكم بجهادهم تطلبون عز الحياة بعز الممات ، وهو ما يذكرنا بقول الصديق – رضي الله عنه- [اطلبوا الموت توهب لكم الحياة ] حياة المجد والكرامة .
يقبل العام الهجري الجديد ؛ وعيني ترمق مكة المكرمة مهبط الوحي ، وأرض الرسالة ، ومحضن العربية .. فمكة أحب أرض الله إلى رسول الله ، وأحب أرضٍ إلينا لحبه صلى الله عليه وسلم _ لها ، نستلهم منها معاني التضحية والإباء ونتذكر الفاتحين الأُوَل ، وكيف أنهم أحيَوا أرضاً بوراً بالإيمان وأحالوا بطحاء الجزيرة إلى واحة غناء بالإسلام والتوحيد .
فأهل الجزيرة العربية أناسٌ متحفزون للجهاد والدفاع عن أمتهم ، وهم في طليعة الشعوب تحرقاً على ما يجري من مآسٍ في أرض فلسطين وغيرها من أرض الإسلام ، ومستعدون لبذل المال والنفس من أجل فلسطين .
إذاً حسبنا مطلع العام الجديد موقظاً للشعور الإسلامي ومحفزاً للقتال والاستشهاد ، ومحركاً لمشاعر الغضب والنضال حتى الرمق الأخير ، ورافضاً لمفاوضات الذل والعار وللتهدئة أيضاً مع العدو الغاصب . فبالصبر والصدق والإيمان والرجولة يثمر غرس الدعوة الجهادية المحمدية وكل عام وغزة تدافع عن شرف الأمة ..