مذبحة غزة... الدوافع والتداعيات

مذبحة غزة... الدوافع والتداعيات

د. ياسر سعد

[email protected]

الرصاص المسكوب أو بالأحرى المحرقة الهمجية، لها دوافع صهيونية وغربية وعربية، كما سيكون لها بطبيعة الحال آثار وتداعيات. اولمرت أرادها لمسح عار إخفاقه وجيشه في حرب لبنان ورفع معنوياتهم المتهاوية، قبل خروجه من المشهد السياسي مجللا باتهامات بالفساد. كما اعتبرها سياسيون إسرائيليون فرصة ذهبية لتحسين مواقفهم الانتخابية من خلال إشباع نهم ناخبيهم المولعة بسفك دماء الأبرياء وسحق عظام أطفالهم.

الدولة العبرية، والتي قالت وزيرة خارجيتها أنها لا تحتاج ولم تأخذ إذن أحد لضرب غزة، أرادت من عنفها المفرط عليها، أن توجه رسالة لأصدقائها العرب، بأن غضبها مرير وقاس وبالتالي فإن علاقتها بهم فوقية وعلاقتهم بها تبعية. وهي تريد ومن خلفها إدارة بوش وحلفائها الغربيين، تحطيم النفسية العربية وتعميم ثقافة "الواقعية" والهزيمة النفسية.

أما الأنظمة العربية والتي شجعت إسرائيل على ضرب حماس واقتلاعها سواء بمشاركة مباشرة بإحكام الخناق على القطاع بذرائع متهاوية، أو من خلال حملات إعلامية مسعورة على المقاومة وتسفيه أطروحاتها، فقد رأت في حكم وسياسة حماس كارثة عليها وعلى مستقبلها. فحماس وصلت للسلطة عبر انتخابات نزيهة وغير مسبوقة عربيا، والتحمت بالشعب وحكمته من خلال قيمه ومشاعره وتطلعاته، ثم إنها أقامت توازن الرعب مع إسرائيل على محدودية قدراتها. هذه الإنجازات تقلق أنظمة تشتكي ازدواجية الخطاب، وتبتعد في سياساتها عن التوجهات الشعبية، فيما إنفاقها العسكري الضخم لا يغني ولا يسمن من جوع.

"الرصاص المسكوب" يذوب على صخرة صمود وصلابة المقاومة، فبعد خمس أيام من إلقاء الحمم والقذائف، أعلن البيت الأبيض أن بوش اتصل بمبارك وشكره على "الدور الإيجابي" الذي تلعبه مصر، كما بحث مع عباس وفياض الجهود الرامية لتحقيق وقف طويل الأمد لإطلاق النار بالقطاع. الحديث الأمريكي والغربي عن مساع لوقف إطلاق النار بعد صمت طويل ومريب، يوحي بأن مجزرة غزة بدأت ترتد وبالا على منفذيها ومن وراءهم.

المقاومة الفلسطينية تنتصر وفي أكثر من بعد. ففي البعد الأخلاقي تتعرى دولة الاحتلال، فيما تكتب غزة ببسالتها وثباتها التاريخ، وتعطي نموذجا وبرهانا بأن اختلال موازيين القوى لا يبدل الحقائق ولا يضيع حقوقا تشبث بها أصحابها. عسكريا ومعنويا أدت حملة القصف الهمجية إلى مزيد من الصواريخ، وبالتالي فشلت في تحقيق هدفها المعلن، فيما ازدادت شعبية حماس بين الفلسطينيين وهوت أسهم عباس محليا وعربيا.

  أحداث غزة الدامية سيكون لها انعكاسات دولية، فالغرب والذي تنتقل منه القيادة الاقتصادية شرقا، يُستنزف أخلاقيا برعايته لدولة الاحتلال وتغطيته على جرائمها. فأية قيمة ستكون للدعاوي الغربية حول حقوق الإنسان في دارفور أو زيمبابوي أو الصين وهي التي بررت أو دعمت المجازر في غزة؟! الصين كانت من أبرز القوى العالمية والتي دعت لوقف إطلاق النار، أما الرئيس البرازيلي فقد دعا إلى عقد قمة لحل النزاع وانتقد بشدة الأمم المتحدة لسلبيتها عن اتخاذ قرار لتجنب المذبحة، مؤكدا ثقته في نجاح دعوته لحيادية بلاده، رافضا بقاء واشنطن وسيطا وحيدا لأنه لا جدوى منه.

أحداث غزة وحدت الشارع العربي والإسلامي والذي ترفع وارتفع عن تصنيفات الأنظمة وخلافاتها العقيمة، وقد تعيد له القدرة على المساهمة في صنع القرار. الذين وقفوا صامتين أو شامتين في المقاومة عبر آلتهم الإعلامية ، سيعتذرون حين تضع المحرقة أوزارها، وتترسخ مكانة المقاومة وثقافتها من خلال ثباتها وتضحياتها.

من جبال أفغانستان إلى مخيمات غزة وأزقتها مرورا بأسود الرافدين، يصنع المقاومون الأحداث، ويعيدون صياغة المفاهيم، وينفضون عقودا من ركام الذل والإذعان، ويخلفون وراءهم اللاهثين وراء السراب، الخانعين الذين يتباهون بمديح القتلة والجلادين.