الكرامة العربية ... بحذاء

حسام القطلبي /  كاتب سوري

[email protected]

امتلأت مواقع الفيديو على الشبكة العنكبوتية بفيلم حذاء منتظر الزيدي، ملايين الصور على مختلف المواقع، ردود فعل وتعليقات بالعربية بلون واحد طاغٍ ( بوركت يداك...). ألعاب الكترونية تجسد الحادثة ورسائل الكترونية  لم تترك تفصيلاً صغيراً في الحادثة ليفوتها. قناة الجزيرة فاخرت بالرقم القياسي لتعليقات القراء على موقعها، واعتزت بأن90% منهم بلون واحد وصوت واحد ( نعم للمناضل منتظر الزيدي)، ابتسامات لم نعهدها على وجوه متجهمة لمذيعي القناة في نشرة الأخبار، وبرنامج خاص للحدث..تسأل فيه المقدمة: أليست لحظة الحذاء تاريخية وفاصلة، ليس لما قبلها أن يشبه ما بعدها ؟. صفات البطولة و النضال أغدقت بكثافة على الصحفي العراقي، ولم يقاوم البعض ميولهم لتشبيهه بغيفارا. عشرة ملايين من الدولارات عرضها أحد السعوديين ثمناً للحذاء(وسام الحرية). ابنة الرئيس الليبي معمر القذافي أعلنت أنها ستكرم منتظر الزيدي. توصيفات تكررت في تعليقات القراء على أغلب المواقع الالكترونية (حذاء البطولة – رمز الكرامة العربية – رمز الشجاعة– رمز الوحدة العربية......) كذا!. الكثير من الحسرة لأن الحذاء أخطأ وجه بوش بنحو أربعة أمتار ونصف، ولكن العزاء موجود لأن أحد القذيفتين أصابت العلم الأمريكي خلف الرئيس. كل هذا وأكثر صنعه زوج من الأحذية في وجه جورج بوش. لا بل أصبح الحذاء أصدق أنباءً من الكتب و السيف مجتمعين، وليعذرنا المتنبي في ذلك.

لا ريب أن الكثير من العنف صبغ المشهد العراقي ابتداءً من 9 نيسان 2003 وحتى اللحظة، وعودٌ بديمقراطيةٍ وحقوق إنسان لم تتحقق، وروائح فساد وصفقات نفطية تزكم الأنوف، ثم اقتتال مذهبي وطائفي يفقئ العيون، ناهيك عن مستقبل غارق بالمجهول ومفتوح على احتمالات عنف متزايد باضطراد. وهذه مسؤولية واضحة تتحملها إدارة جورج بوش عما حصل ويحصل، ولعل تلك القذيفة هي الأقل عنفاً بين كل ما حصل في العراق في السنوات الخمس الماضية. كل ذلك يجعل من صفعة الحذاء مستحقةً تماماً. أقلها أن القوات الأمريكية موجودة على الأرض العراقية كمحتلة، ما يجعلها في صدارة المسؤولية، رغم أن في ذلك إغفالاً للاعبين إقليميين لطالما امتدت أذرعتهم للعبث في الداخل العراقي، لأن نموذجاً لعراق مستقر سيدفع بهؤلاء إلى مأزق حرج، ولكن هذا المقام ليس  لهذا المقال.

والسؤال هنا: أي تفسير لنجومية حذاء؟

لعل الحادثة ليست عادية، هي استثنائية بالطبع في توقيتها وشكلها وأبطالها ( صحفي عراقي بمواجهة رئيس أميركي والسلاح حذاء!) رمزية عالية تمتع بها المشهد النادر. ولنا أن نقرأ في أوجه رمزية أخرى للحدث الذي حظي باحتفالية كبرى في وسائل الإعلام الرسمية العربية، تلك عينها التي تجاهلت وبشكل فاضح حذاء أبو تحسين الذي انهال صفعاً على صورة لصدام حسين إبان سقوط بغداد و تواري هذا الأخير عن الأنظار، كما تجاهلت في تلك اللحظة أيضاً تلك الركلات التي انهالت على تمثال صدام عند إسقاطه وسط بغداد. لا شك أن هذا الإعلام وجد دعاية ممتازة بين ثنايا حذاء الزيدي، لطالما بحث عنها بين ثنايا أدمغة وزراء إعلامه!. كما مارس انتقائية (بين حذاء وآخر) في تجاهله للمشاهد المذكورة التي ربما صدعت رأس أصحابه - الإعلام الرسمي- وأقضت مضاجعهم لفترة طويلة. مكرساً بذلك صورته كإعلام ممانع يتصدى للدعاية الصهيونية و الامبريالية الأمريكية.

ربما لن يستعصي على الفهم ما دفع بالزيدي إلى استخدام حذاءه بدلاً من قلمه في مؤتمر صحفي، كان رئيس دولة محتلة يصافح مندوبه السامي هناك مهنئاً نفسه على ما يسوقه على أنه نموذج انتصار للديمقراطية وحقوق الإنسان، وربما هو يعلم بأنه قدم نموذجاً سيئاً مناقضاً لتلك القيم. ولكن ما يفجر الدماغ استعصاءً هو السعادة العربية البالغة التي توحي بأن العراق محرر الآن بعد حذاء ونيف! ليس هذا فحسب، بل يعاد تشكيل صدام حسين على هيئة بطل استرد اعتباره الآن، يرافق ذلك إعادة إنتاج لعراق ما قبل الحرب، عراقاً حراً وسرمدياً ينتعله قائد فذ ومناضل أيضاً، وها هو شهيد يسكن فسيح الجنان الآن!.  

أحذية كثر، تلك التي انهالت وتنهال على رؤوس الناس في العراق و في غير مكان من العالم العربي ولم تحظ بهذا الاهتمام الشعبي. كل تلك الصفعات و الركلات التي تلقاها ويتلقاها الإنسان العربي في المعتقلات وأقبية التعذيب، كلها مجتمعة لم تحرك الأحذية والأقلام والأصابع والأفواه العربية كما فعل حذاء منتظر الزيدي. ومن الصحيح هنا بأن الأنظمة العربية لن تتسامح غالباً مع أصوات تعلو فوق أصوات معاركها مع الطواحين، ومن الثابت أن الواقع المتردي لوعي الإنسان العربي بحقه في رفع حذاء أو غيره سخطاً في وجه حكامه، يجعل لسماع أصوات (لا) ضرب من الندرة. ولكن سؤالاً هنا يلح على الذهن: هل سيأتي يوم ما، يرفع فيه عربي ما، في بلد عربي ما، حذاءً ما، في وجه حاكم عربي ما ؟!. أغلب الظن أن: لا، ليس في المدى المنظور. وإلى أن يحدث ذلك ستبقى الكرامة العربية والدماء العربية ... تحت حذاءٍ ما.

بيد أن الشعب الأميركي وحده وجه الصفعة لوجه جورج بوش وصقوره وحمائمه أيضاً وأخرجه وحزبه من الحكم بالضربة القاضية. وحده من كنس إدارة مقيتة كهذه من البيت الأبيض، وأعاد إلى الواجهة صوت مارتن لوثر: I have a dream  واجترح معجزة جلبت رجلاً أسود إلى المكتب البيضاوي. ولعله سيكون سبباً مباشراً في خروج القوات الأميركية من العراق.

هذه ليست دعوة للثورة، إذ لطالما ابتلعت الثورات شعاراتها وثابرت على قضم حقوق جديدة، ولطالما مارست (المقاومات) عنفاً مضاداً وتفرعنت في الشوارع. ولا يدعي كاتب هذه السطور ثورية ما. إنها فقط تأملات متحسرة على واقع مؤلم لا يستأهل إلا أن نرفع له أحذيتنا سخطاً ومرارة. وإن كان من تغيير منشود لهذا الواقع، يأخذ بالحسبان التجربة العراقية، فهو على الأقل يبدأ بنبذ (نعم) بغيضة، وتعلم بعضٍ من (لا).

وهي ليست تحريضاً أيضاً، ولا حتى دعوة لاستخدام الأحذية في غير مكانها ... إنها بعض من بوح  فقط. فاقتضى التنويه.