الحياة مفاوضات .. الحياة مخابرات
طارق حميدة
tariq_hamida@hotmail.com
أواخر العام 2000، ومع انطلاقة انتفاضة الأقصى، راجت شائعة قوية في الضفة والقطاع،
أن عقيد الموساد الذي اختطفه حزب الله في تلك الفترة، قد أدلى باعترافات خطيرة حول
علاقات تجسس وعمالة معه من قبل عدد من مسؤولي السلطة الفلسطينية وقد انتشرت هذه
الشائعة انتشار النار في الهشيم، وبقي الفلسطينيون يتداولونها زهاء خمسين يوماً،
على أنها خبر حقيقي، سيعلن تفاصيله تلفزيون المنار، أو الأمين العام للحزب السيد
نصر الله.
وكان اللافت للانتباه أن أبرز الأسماء تردداً في الشائعة هم قادة الأجهزة الأمنية،
وكبار المسؤولين السياسيين وبالذات رجال المفاوضات.
وقتها تحدث كاتب هذه السطور فيما كتب وخطب، وهو يحلل أبعاد هذه الشائعة، أن مجرد
تقبل الشارع الفلسطيني لفكرة أن عدداً من زعاماته هم عملاء للاحتلال على الرغم من
رصيدهم النضالي، هو نذير خطير ينبغي أن تُدق له نواقيس الخطر، وتشعل لأجله كل
الأضواء الحمراء، من قبل هذه الزعامات ومن حولها.
وقد
ورد في التحليل:" أن هناك عاملاً هاماً متعلقاً بالسلطة، شجع قبول الشائعة ورواجها،
وهو أداء السلطة الفلسطينية الذي ينبغي أن تتم مراجعته من قبل أعلى المستويات فيها،
سواء في ذلك أداؤها السابق أو أداؤها في الانتفاضة، إذ كيف يقبل الشعب الفلسطيني
اتهام أبنائه الفدائيين الذين استقبلهم بالأمس القريب استقبال الأبطال وكيف يروج
عنهم بأنهم جواسيس ؟! لا شك بأن الأداء التفاوضي والتنسيق الأمني وملاحقة
المجاهدين، وقضايا الفساد، وغياب القانون كل ذلك وغيره ساهم في زعزعة ثقة الشارع
الفلسطيني بقيادته .
وحول تساؤل: لماذا ركزت الشائعة على إيراد أسماء عدد من العقداء بوصفهم عملاء ؟!
كان الجواب:
1)
أن عضو الموساد المعتقل عند حزب الله هو برتبة عقيد، ومن المتوقع والمناسب، أن يكون
أقرانه الذين يتعاونون معهم، برتبة مساوية أو مقاربة على الأقل.
2)
بما أن الحديث يدور عن عقيد في جهاز أمني صهيوني، فهناك أكثر من عقيد ذوي مسؤوليات
كبيرة، في عدد من الأجهزة الأمنية الفلسطينية، حيث وجدنا الشائعة تلمح إليهم، أو
تذكر أسماءهم صراحة.
3)
ولعل التركيز على العقداء بسبب أن الفلسطينيين كانوا يتمنون منهم دوراً في قيادة
الأحداث وحماية الجماهير، وإذ لم يحصل هذا الدور، فقد نالهم نصيب من مشاعر الغضب
والنقمة.
وقد
توقع الكاتب أن تكون أجهزة الاحتلال وراء الشائعة، والاحتمال الآخر أنها حيلة نفسية
شعبية لقول كلام صعب بطريقة غير مباشرة، لتفادي تحمل مسؤوليته، على قاعدة أن ناقل
الكفر ليس بكافر، وحتى لو كان الاحتلال وراءها، فإن ترديدها وتقبلها بهذا الشكل من
جانب الفلسطينيين يؤدي إلى النتيجة ذاتها
وقبل شهور من العام الجاري 2008، ومع اشتداد عنف السلطة والأجهزة الأمنية في الضفة، وملاحقتها للحركة الإسلامية ومؤساساتها وأنصارها، وما نتج عن ذلك من استشهاد الشيخ مجد البرغوثي كان مقال " يا عقلاء فتح أوقفوا هذا الجنون" وكانت الرسالة ذاتها وبالذات للأجهزة الأمنية أن الفجوة بينكم وبين شعبكم تتسع، وأنهم بدأوا يستفتون هل تجوز مصاهرتكم، وصار أهلكم يسألون هل يحل الأكل من الرواتب التي تتقاضونها لقاء تعاونكم مع الاحتلال وملاحقتكم للمناضلين وبالذات من الإسلاميين.
وحذر المقال المعنيين بأنهم يغامرون ويقامرون بسمعتهم ووطنيتهم، وأنهم يذهبون بعيداً في التعاون مع الأعداء، وأن هذه الطريق لا تحرر وطنا ولا تقيم دولة، لا بل إنهم يقامرون حتى بمستقبل أبنائهم وهم يورثونهم السمعة السيئة، ويلصقون بهم أنهم أبناء عملاء، فهل يدركون خطورة الذي يفعلون؟ وهل لديهم الاستعداد للإفاقة من الجنون، والتوقف عن التمادي في الغواية؟؟ وأين عقلاء فتح وشرفاؤها ليوقفوا هذه المهازل؟؟.
وقتها علق البعض ساخرين: ( فالج لا تعالج!!)، وأن الكاتب يصرخ في واد وينفخ في الرماد، وأن الذين توجه خطابك إليهم قد أصبحوا ما بين عميل مأجور ومرتزق متواطئ، والشريف فيهم شيطان أخرس لن ينتصر للحق ولن يواجه الباطل، جبان خائف من السلطة أو مرعوب من الاحتلال.
وبعدها بشهور، استدعي صاحب المقال، لجهاز أمني، وحذروه من الاستمرار في " التحريض" على الأجهزة الأمنية، خشية أن يستفز كلامه أحد منتسبيها ـ كما قال الضابط ـ فيطلق عليك الرصاص.
ومن هنا تأتي قيمة مقال النائب الفتحاوي عيسى قراقع تسمي الأمور بمسمياتها وتطلق صرخة تعتمل في صدر كل فلسطيني، وقد تغوّلت الأجهزة الأمنية، وتضاعفت عدوانيتها ضد أبناء شعبنا، بعدما مدت أذرعها داخل كل مفاصل السلطة والمجتمع، وحرصت على تجنيد أكبر عدد ممكن من الناس، حتى من النساء والأطفال وكبار السن، وربما جاهر بعض التلاميذ والتلميذات في المدارس المتوسطة، فضلاً عن طلبة الثانويات والمعاهد والجامعات، وموظفي الدوائر والعمال بنشاطهم في الأجهزة الأمنية.
ذريعة الانقلاب .. وجرائم الحكومة المقالة
لا يمل مسؤولو الحكومة المعينة في الضفة ووسائل إعلامها ، ورجالات الأجهزة الأمنية هناك، من الحديث عن "الانقلاب الدموي" في غزة، وجرائم الحكومة المقالة، وكان آخر ما طالعتنا به وسائل الإعلام قيام الحكومة المقالة بفصل أعداد كبيرة من الوظفين القريبين من فتح، وفي اليوم التالي لنشر الخبر على صدر الصفحات الأولى، تسلم المئات من المعلمين والمعلمات في الضفة قرارات بفصلهم من وظائفهم، أو بإلغاء تنسيبهم وتعيينهم من قبل الجهات المختصة!!، والكتب موقعة من الوزارة كما سمعت، وإذا صح الكلام، فمن هي الجهات المختصة التي تصغر أمامها الوزارة، وما الذريعة للفصل حيث الأسباب ليست مهنية؟؟.
يكفي أن أذكر بأن إحدى المعلمات المفصولات كانت من العشرة الأوائل في الثانوية العامة، وأنها كانت الأولى على كليتها في الجامعة الأردنية، وأن معلمة أخرى من بلدها قد منع راتبها منذ بضعة عشر شهراً، وذنبها الوحيد أنها تشرف على مركز لتحفيظ القرآن الكريم خرّج عشرات الحافظات لكتاب الله، والمتفوقات في الثانوية والجامعات، إحداهن المعلمة سالفة الذكر!!
لقد ألغى الرئيس بعد الانقلاب، أو بالأحرى بعد فشل الانقلاب، قرارات التعيين لأعداد كبيرة من أنصار حماس، وأوقفت رواتب الآلاف وبالذات في القطاع، وأغلقت مؤسسات وصودرت ممتلكات ولوحق المجاهدون والنشطاء وسُلخت جلودهم، وربما أصيب العديدون بعاهات وأمراض جسدية ونفسية، وشعر الكثيرون أنهم قاب قوسين أو أدنى من الشلل أو الموت، ونال نشطاء الانتخابات والعاملين فيها النصيب الأوفر، إذ إنها تشكل عقدة كبيرة لدى البعض، وكأنه لن يهدأ لهم بال حتى تلغى هذه الصفحة بكل مكوناتها ورموزها من الواقع الفلسطيني، وقد يحتاج ذلك إلى إبعاد حماس من الواجهة والوجود ثم القيام بانتخابات يخوضونها بدون حماس، حيث يفوزون بها فوزاً ساحقاً يمسح عار الهزيمة السابقة.
خطير جداً ومدهش جداً، أن تتحول قطاعات واسعة من تنظيم وطني مقاوم عريق، إلى أدوات لحماية الاحتلال ومقاومة المقاومة، وتتحول البوصلة مائة وثمانين درجة؛ بحيث تصبح المعركة المصيرية مع الداخل لا مع الاحتلال، والمعركة مع حماس معركة وجود، ولا صوت يعلو فوق صوت المعركة، ولئن أقام المحتلون هدنة مع حماس، فإن رجالات السلطة لا هدنة بينهم وبين حماس، كما نقل صحافي صهيوني عن مسؤول أمني فلسطيني خلال اجتماع أمني بين الطرفين.
لكأنما يُسيّر هؤلاء عاملان أحدهما الثأر والانتقام من منافسهم السياسي في الداخل، ثم الإحساس بأن حياتهم ومكاسبهم وامتيازاتهم هبة من المحتل ونعمة من الغاصب ينبغي أن يديموا الشكر عليها بالتناغم مع مطالبه، ولئن كتب بعضهم أن الحياة مفاوضات معبراً عما يعتمل في صدور الكثيرين من أنه لولا قيامهم بها الدور مع المحتلين ما عاشوا هذه العيشة، ولا ذاقوا طعم تلك الحياة بأسفارها وأموالها ولقاء الكبراء في العالم والنزول بأفخم الفنادق، ولكان مصيرهم كالذين غضب عليهم الاحتلال فجعلهم تحت التراب.
الحياة مفاوضات، عند قطاع من السياسيين ... والحياة مخابرات، عند فريق من رجالات الأجهزة الأمنية العربية والفلسطينية، ورسالة أصحابها، كما ارتضوا لأنفسهم، أن يكونوا عوناً لأعداء شعبهم وأمتهم.
أكاد لا أصدق أنني أتحدث عن أهلي وأقاربي وإخواني من أبناء شعبي وأمتي، ولن أصرخ هذه المرة، فاللبيب تكفيه الإشارة، وقد تحدثت بصريح العبارة، والشريف يرده أصله الطيب وجذره الأصيل، والله تعالى يقبل حتى توبة الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات، لكن الذين لم يتوبوا لهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق.
والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.