كَفْرُ قَاسِم..! مجزرة تذكّرنا بمجازرنا

بدر الدين حسن قربي /سوريا

[email protected]

في 29 تشرين الأول/ أكتوبر 1956 وفي قرية كفر قاسم الفلسطينية ارتكبت قوات الاحتلال الإسرائيلي مجزرةً كان ضحاياها 50 شهيداً، لم يُسمح لأسرهم وأحبائهم من سكان القرية أن يزوروا الشهداء في المقبرة والقيام بواجبات العزاء إلا بعد ثلاثة أيام.  ويسجل عن هذا الحدث الإجرامي أن مرتكبيه ولاعتباراتٍ خاصةٍ وضغوطٍ إعلامية، تم تقديمهم إلى محكمةٍ علنيةٍ إسرائيلية اعترفت فيها المحكمة بفظاعة الجريمة، وحكمت على العديد منهم بالسجن مابين 15 – 17 عاماً، خُفِّفت بعد الاستئناف إلى النصف تقريباً، ولكنهم لم يمضوا فترة محكوميتهم كلها لصدور مرسوم عفوٍ عنهم من رئيس الدولة ويستطيع المتابع لتاريخ هذه المجزرة فيما كُتب عنها أن يجد معلوماتٍ تكاد تكون كاملةً عن أعداد الضحايا والقتلة منفذي الجريمة، وكذلك أسماءهم وأماكن دفنهم.  

وتتجدد ذكرى الجريمة مع كل عام، فيستذكر فيها الناس في شامنا المبارك فظاعة هذا الحدث المريع والوحشي الذي يعطي الدليل القاطع على إجرام مرتكبيه، وليستذكروا معه أيضاً مجازر أخرى قد تكون أقل منها أو أكثر بكثير، حدثت في أكثر من مكان، وفي أكثر من بلد وفي أكثر من مخيم، أصحابها ليسوا يهوداً ولاصهاينة، وإنما هم من أبناء جلدتنا عروبيين وقوميين، العارب منهم والمستعرِب،  ليتأكد لكل ذي بصيرة أن الإجرام والإرهاب والقتل وسفك الدماء ملة واحدة، وإن اختلفت ملل القتلة والمجرمين ونحلهم وألوانهم ومراتبهم في شتى الدول والممالك.

ونستدعي على سبيل المثال لا الحصر أنه في صباح أول أيام عيد الفطر 11 آب/أغسطس 1980 ارتكِبت مجزرة في حي المشارقة في مدينة حلب، جُمِع فيها قرابة مئة شخص من الحي وبشكل عشوائي لم يكونوا متهمَين ولامطلوبين ولامدانين عزْلاً من أي سلاح، وأغلبهم كان خارجاً للتو من صلاة العيد، وتم اقتيادهم إلى مقبرة هنانو القريبة منهم لتُفتح عليهم نيران رجالٍ لايهابون في قمع مواطنيهم وقتلهم لومة لائم، مما نتج عنه أكثر من ثمانين ضحية، حُفر لهم الأخدود ودفنتهم الجرافات، وبعضهم كان ما زال حيّاً لم يُفارق الحياة بعد. 

ولئن كان سفاحو كفرقاسم قد قُدَموا إلى محاكماتٍ، صدر عنها ماصدر وقيل عنها ماقيل، فإن جزّارينا وسفّاكينا لم تتم محاكمتهم بعد لاعتبارات خاصة وللحصانة الممنوحة لهم بموجب المرسوم رقم 14 لعام 1969 الذي يشير جلياً وعلى رؤوس الأشهاد إلى أنه لايجوز ملاحقة أي من العاملين في إدارة أمن الدولة (المخابرات العسكرية والمخابرات الجوية والمخابرات العامة) أوالمتعاقدين معها أو المعارين إليها والمنتدبين عن الجرائم التي يرتكبونها أثناء تنفيذ المهمات المحددة الموكلة إليهم أو في معرض قيامهم بها إلا بموجب أمر ملاحقة يصدر عن مدير الإدارة.  بمعنى أن هنالك جهات أشير إليها بالمرسوم ترتكب جرائم أثناء تنفيذ مهماتها، ينتج عنها بالتأكيد جهات متضررة تقع عليها أفعال سماها المرسوم صراحةً جرائم، ولكنها بصراحة المرسوم العتيد لاتملك حق مقاضاتهم في مقابل هذه الجرائم.  ولئن مَنَعَ المرسوم حتى مساءلتهم ومقاضاتهم عن جرائمهم، فإن الجهات المعنية الرسمية ليست عديمة النظر في مراعاة أسر الضحايا وتعويضهم، فكان أن دفعت لكل منها مبلغاً لايقل عن خمس وسبعين ألف ليرة سورية باعتبارهم ضحايا جريمة عن تصرف خاطئ اجتهد فيه رجل حصين ومحصّن وعصي على الحساب والمساءلة بالمرسوم والقانون.  فصحيح أن الجهة المعنية منعت مقاضاتهم، ولكن كلها نظر فعينها لم تنم ولم تغفل حتى عوضتهم.

 وإن تعجب فعجبٌ احتفاءُ جزاري أخدود مقبرة هنانو المشارقة شجباً واستنكاراً وتنديداً بمجزرة كفر قاسم، وأن تأخذ حيزاً إعلامياً عندهم في يوم المناسبة إذاعةً ومشاهدةً وكتابةً إحياءً للذكرى، وكأن القتل والوحشية اختصاص صهيوني لايعرفونه رغم الحقائق الشاهدة عليهم، والأرقام الناطقة ضدهم.

مرتكبو جريمة كفر قاسم قُدموا لمحاكمات، وسُمح أخيراً لأهالي الضحايا وأحبائهم وناسهم ومواطنيهم بإحياء هذه المناسبة عند قبر كل منهم وإقامة النصب والجداريات التي تدل على الضحايا وتذكّر العالم بهم.

ضحايا مجزرة كفر قاسم الخمسون، وضحايا مجزرة حي المشارقة الثمانون في حواصل طير خضرٍ تشكو إلى الله بطش المجرمين القاتلين.

كمواطن سوري أطمح يوماً ما أن يتحقق بسعي كل مواطنينا ومعهم المجتمع الدولي وهيئاتة المحلية والعالمية ومنظمات حقوق الإنسان في شتى أصقاع الأرض مساواة ضحايانا المشارقيين مع ضحايانا في كفر قاسم، فيحاكم مرتكبو الجريمة، ويسمح لأهالي الضحايا وأحبائهم عمل جدارية لائقة لحشاشات قلوبهم ممن فَقَدوا على طرف الأخدود الذي دُفنوا فيه جميعاً تقديراً وإكراماً لأناسٍ برآء قضوا في هولوكست حماة الديار.

الرحمة والرضوان لشهدائنا الأطهار في كفر قاسم/فلسطين ممن قتلوا بأيدي من يزعم أنه شعب الله المختار، ولشهدائنا أصحابِ أخدودِ المشارقة الأحرار، ممن قُتِلوا بأيدي من يزعم أنه من حماة الديار.  والويل لمن قَتَلَ الأبرياء في مقبرة هنانو عند شروق الشمس صباح العيد، كما الويل لمن قَتَلَ أهلنا في كفرقاسم عند غروب الشمس وقد غاب النهار.