صعود دولة روسيا القومية

هل نستفيد نحن العرب من المثال الروسي،

فضلا عن عودة روسيا قطبا فاعلا نتقاطع معه في المصالح؟

فراس أبو مصلح

شهير هو القول بأن لا معنى للحديث عن الحرية والديمقراطية في ظل الفقر والتخلف والحاجة والجهل، بل إن الفكرة بديهية بالنسبة للكثيرين من المهتمين بالشأن العام ذوي الرؤية الشاملة غير الخاضعين للدعاية الإمبراطورية أو الحصينين تجاه "أسلحة التضليل الشامل"، السلاح الأشد فتكا في ترسانة المعسكر الإمبريالي الصهيوني وشركاته المعولمة. وبديهي أيضا أن الرأسمال أو القطاع الخاص حافزه ومنطقه هو الربح، وليس تنظيم المجتمع وصيانته وتنميته، كما أثبتت التجارب حول العالم بطلان نظرية "تسرب" الثروة (Trickle-Down Theory) ممن تتركز بأيديهم الثروة إلى سائر شرائح المجتمع، وظهر أن التنمية المتوازنة والمستدامة لا تكون إلا حيث تزدهر قطاعات الإنتاج الحقيقي وتتوافر فرص العمل وتتقلص الفوارق الطبقية. فمن هي الجهة المعنية والقادرة على تنظيم المجتمع وحمايته وتنميته غير الدولة؟ وأي دولة هذه هي القادرة على الاضطلاع بهذه المهام غير الدولة القومية التي تجسد مصالح وإرادة مجمل مكونات المجتمع (الإثنية والدينية وأيضا الطبقية) وتحميه من العدوانية الإمبريالية التي لا تتوانى عن إستعمال كل أشكال القوة والإجرام والخداع لتدمير مؤسسات الدول وتمزيق مجتمعاتها إثنيا ودينيا وطبقيا للسيطرة على مواردها وتأمين الأسواق وتأبيد سيطرة المركز الرأسمالي الإمبريالي وتأبيد تخلف "المستعمرات". وأي دولة هذه هي القادرة على صون أمن مجتمعها ووحدته ومصالحه غير الدولة القومية الديمقراطية، أي غير القائمة على أساس الإثنية والدين، بل على أساس وحدة حياة ومصالح هذه الجماعة من البشر التي تكونت على أرض محددة عبر التاريخ، وعاشت تجاربا تاريخية مشتركة، وتواصلت وتفاعلت ثقافيا بلغة مشتركة كتبت بها ذاكرتها التاريخية المشتركة وعبرت بها عن وعيها المشترك وأنتجت بها فكرا وفنا. وأي جهة غير الدولة القومية الديمقراطية قادرة على إعادة توزيع الثروة بشكل عادل وتأمين الخدمات والتأمينات الإجتماعية ولجم البرجوازيات التجارية والمالية (الوسيطة والطفيلية) التي هي بطبيعتها الإقتصادية تنزع نحو التبعية للمركز الرأسمالي الإمبريالي. ولا بد من التأكيد هنا أنه لا معنى للقول بأن الفكرة القومية فكرة "برجوازية" تخدم طبقة بعينها، لا مصالح غالبية الناس، في ظل واقعنا العربي المتخلف حيث مفهوم الهوية والولاءات ما دون قومي وما دون قطري، بل هو قبلي عشائري مذهبي زبائني متخلف، مما يمنع تشكل دولة حديثة قادرة على صون أمن مجتمعها وتأمين شروط رفاهه وازدهاره، فبالتالي من المبكر إختصار قضية الجماهير وحصرها في مسألة ملكية وسائل الإنتاج واقتسام فائض الإنتاج أو الكعكة، فلا كعكة أصلا، إذ أن الإمبريالية قضت على قطاعات الإنتاج وأدخلت إقتصادات الأقطار العربية في دائرة تبعية إقتصادية تنهب الموارد الوطنية وتعطي الفتات للبرجوازيات الوسيطة والطفيلية التابعة. فلا يمكن القفز إلى الأممية مباشرة من واقعنا المتخلف وقبل تحقيق مهام التحرر والوحدة، وهي مهام بحاجة إلى أوسع تحالفات جبهوية ممكنة، فضلا عن بناء النهضة الإقتصادية الإجتماعية، أساس النهضة الحضارية الشاملة.

كان لا بد من هذه المقدمة الطويلة قبل الدخول في صلب الموضوع، وهو نموذج الصعود الروسي بعد دمار المؤسسات والنهب المنظم الذي مارسته نخب إقتصادية مدعومة من الإمبريالية والصهيونية (وهو ما أسمي Piratization بدل Privatization، أي قرصنة بدل خصخصة) وحال التفكك والتحلل والضعف والتراجع الذي أعقب إنهيار الإتحاد السوفياتي.

صحيح أن المقارنة بين الإتحاد السوفياتي السابق وروسيا اليوم تظهر خطا بيانيا تاريخيا هابطا، فلا الدولة تؤمن الحاجات الحياتية الأساسية لجميع المواطنين كحق طبيعي لهم، ولا هي تدعم حركات التحرر والأنظمة الثورية التقدمية حول العالم بالمجان تقريبا، كما كانت تفعل الدولة السوفياتية التي، وإن لم تكن "شيوعية" أو "إشتراكية"، بل إمبراطورية ذات نظام "رأسمالية الدولة" كما يحاجج الكثير من المفكرين اليساريين، فهي بالتأكيد كانت أكثر تقدما بالمعايير الإنسانية، وكانت سندا للكثير من شعوب العالم المضطهدة، وقدمت نموذجا تاريخيا بديلا عن ذاك الذي كاد أن يكون أوحدا، النموذج الرأسمالي الذي أصر عن سابق تصور وتأمل وتفكر وتصميم أن أنعته بالـ"متوحش".

ولكن تبقى حقيقة أن الإتحاد السوفياتي إنهار ونُهب وبات مسرحا للثورات الملونة الأميركية الصنع المشغولة بالمخابرات والمال والإعلام، وباتت روسيا نفسها عرضة للتفكك وبلغ تحللها حدا أصبحت الدولة فيها عاجزة عن فعل أي شيء إزاء موت الآلاف في الأطراف أثناء موجات الصقيع بسبب تعطل أنابيب المياه الساخنة جراء توقف أعمال الصيانة، وبات أسطولها من الغواصات النووية قطع خردة تحوي مواد مشعة تنذر بخطر كارثة وشيكة، وذلك بسبب توقف أعمال الصيانة أيضا، فبلغت مذلتها حدا يفوق التصور إذ دخلها وزير الدفاع الأميركي دخول الفاتحين حاملا "مساعدات" مالية لتمويل تفكيك الأسطول النووي بشكل آمن.

 لم تكتف الإمبراطورية الأميركية بهزيمة الإتحاد السوفياتي وزواله وبالحال المزرية التي آلت إليها الدولة الروسية وبتحكم النخب الموالية للأميركيين والصهاينة فيها ونهبها لها وتفكيكها لبنيتها الصناعية والعسكرية ولكل مؤسساتها السيادية، بل تابعت هجومها الشامل هادفة إلى تمزيق روسيا نفسها، فكانت تذكيتها للحركة الإنفصالية في الشيشان ودخولها العسكري لوسط آسيا عبر النخب الجديدة التابعة الحاكمة للجمهوريات السوفياتية السابقة في الجنوب وباجتياحها لأفغانستان وتمدد حلفها الأطلسي والسعي لإقامة درعها الصاروخية، فكان لا بد من الرد، وكان لا بد أن تقاوم روسيا "بالعدة المتوفرة لديها" وبأي وسيلة ممكنة لتوقف السقوط وتمنع التمزق والإندثار.

 تصدى حلف يمين الوسط، بصلاته مع المخابرات والجيش والكنيسة الأرثوذكسية، لهذه المهمة، فوطد سلطة الكرملين وضرب بعض رموز النخب التابعة التي نهبت الدولة وخرّبتها (بيريزوفسكي وغوسينسكي وغيرهم) وحجّم نفوذهم، كما أعاد هيكلة الجيش وفعّله واستعمله بقوة لقمع الحركات الإنفصالية (الشيشان) والتصدي للتطاولات الغربية (الحرب الأطلسية عبر بوابة جورجيا). وحققت روسيا في هذه الأثناء أرقام نمو هي من الأعلى على صعيد العالم، وحققت فوائض كبيرة من أموال النفط الذي استعملته أيضا كأداة إستراتيجية للضغط على أوكرانيا وأوروبا، خصوصا أن محاولات بناء أنابيب نفط من بحر قزوين إلى ميناء جيهان التركي وإلى المحيط الهندي عبر أفغانستان، وذلك لتجاوز روسيا، لم تفلح حتى الآن.

 نجح الائتلاف الحاكم في روسيا بوقف السقوط ومنع تمزق الدولة واندثارها ومنع التعدي عليها من الأطراف الداخلية والخارجية ووضع حد للنهب والتدهور الإقتصادي الكارثي، كما أعاد فرض روسيا قطبا دوليا فاعلا وناشطا في الدفاع عن مصالحه الحيوية وفي إقامة التحالفات والتكتلات التي تؤمن مصالحه (منظمة شانغهاي). هذا لا يعفي الائتلاف الحاكم من النقد لكونه لا زال يعمق الفوارق الطبقية ويزيد من تركز الثروة في أيدي القلة مثلا، ولكني أحسب هذا النظام "تقدميا" قياسا لذاك الذي ورث الإتحاد السوفياتي مباشرة وأمعن فسادا وتخريبا وارتهانا للإمبراطورية الأميركية وللشركات المتعددة الجنسية وللصهيونية العالمية. أما بخصوص إعادة إحياء إرث الإمبراطورية الروسية وإعادة الإعتبار لرموز الإمبراطورية كالقيصر والكنيسة، فربما كان هذا من ضرورات مرحلة الصراع هذه التي تفرض تحالفات عريضة_ تحالفات الضرورة.

الأجدى بنا كعرب أن نسلط عيننا الناقدة على واقع الضعف والتفكك والتخلف والفوضى والبلبلة الذي نعيشه بدل أن نزايد في التقدمية في معرض نقد النظام الروسي الحالي، ونحسن صنعا إن اعتبرنا من نموذج توطيد وصعود دولة روسيا القومية الذي يضاف الآن إلى نموذجين ملاصقين لنا.

 النموذج الأول موجود منذ نهاية الحرب العالمية الأولى، ألا وهو النموذج القومي التركي. فتركيا تداركت التفكك والتبعية بعد انهيار الإمبراطورية العثمانية بالتوحد تحت الراية القومية وقتالها وطردها للغزاة وبنائها الدولة الحديثة وتوطيدها، ما مكنها من صون أمنها القومي وتوفير شروط إقتصاد منتج من موارد وسوق كبير نسبيا، فحققت ما يطلبه أي مواطن: أمن ورفاه.

 أما النموذج الثاني فهو إيران، حتى بنظامها الإسلامي، فالخطاب الأيديولوجي الديني وكل النوايا الحسنة المعبر عنها تجاه الإخوة في الإسلام لا تحجب حقيقة أن النظام في إيران يولي المصلحة القومية الأولوية المطلقة على كل ما عداها، وهذا أمر طبيعي وحق مشروع بالنسبة له. أبرز مثال على ذلك تعاطي إيران مع "الملف" العراقي حيث تدعم حكومة المالكي الفئوية والعميلة للأميركي، وتدعم ما يسمى بـ"العملية السياسية"، أي عملية إستيعاب القوى المحلية وإجهاض مقاومتها، وتدعم الفدرلة ودعاة الفدرلة، أي تقسيم وتمزيق العراق وحجب إمكانية نهضته مستقبلا، كما يبدو أنها تضبط إيقاع أو "تمسك بخناق" المقاومة العراقية بما يتوافق مع مصلحتها ومع حاجاتها التفاوضية مع الأميركي. وكل ذلك بغية إستيعاب الهجوم الأميركي عليها وعلى المنطقة واستنزافه، وفي آن واحد التأكد من القضاء نهائيا على العراق الموحد القوي، غريمها اللدود. إيران بذلك تطيل أمد إحتلال العراق ومعاناته، وتزيد في مأساته، وذلك على الرغم من أن الغالبية الساحقة من العراقيين هم مسلمين، ولكن مصلحتها القومية فوق هذا الإعتبار.

لا خلاص للأمة العربية إلا بتحقيق وحدتها القومية في إطار كفاحها للتحرر من الإحتلال الأطلسي الصهيوني وظهيره الداخلي المتمثل في النخب التابعة العميلة، وذلك هو الطريق الوحيد والإجباري للنهضة الإقتصادية والاجتماعية والحضارية الشاملة. وذلك يتطلب تحالفات جبهوية عريضة تجمع كل القوى صاحبة المصلحة في التحرر والوحدة والنهضة، من القوى القومية واليسارية إلى الإسلامية الجهادية غير التكفيرية.

 لا بد لنا، إذا كنا نبتغي بناء نهضة أمة، أن نخرج من أسر الفئويات التي أحسنت وأبدعت الإمبريالية والصهيونية في إدارتها لمصلحتها، لنوحد الجهود من أجل الوحدة والتحرر والبناء.