لا يا من كنت سيدة أولى

أ.د/ جابر قميحة

[email protected]

في مساء الاثنين 6 / 10 / 2008 ، وفي برنامجه " تسعين دقيقة " قدم معتز الدمرداش السيدة جيهان السادات في حلقة استغرقت قرابة ساعتين . وفي السطور الآتية نقدم للقارئ مضامين حديثها ، ورأينا فيما قالت :

والسيدة جيهان السادات ــ  زوجة الرئيس السابق محمد أنور السادات ــ  كان يطلق عليها " سيدة مصر الأولى ، وهو لقب مقحم على عقلية المصريين فهم لم يتعودوا على ترتيب الرجال والنساء ترتيبا تنازليا أو تصاعديا : فهذه سيدة مصر الأولى ، وهذه سيدة مصر الثانية ، وأخرى الثالثة ... مما يعد لونا من العبث وإهدار الفكر .

ولكن المصريين جميعا يعلمون ، ــ بل رأوا بأنفسهم ــ مظاهر النفوذ الهائل الذى كانت تتمتع به السيدة جيهان ، حتى إن بعض القوانين كانت تنسب إليها ، فيقال   "  قانون جيهان السادات " .

ولا نقف الآن أمام ما قيل وما تردد ، ولكن وقفتي مع كلماتها الخطيرة الغريبة ، وأنا أقول من حق السيدة جيهان أن تتحدث عن عاطفة حبها الغامر لزوجها ، ومن حقها أن تتحدث عن نفسها , وعن قيامها بالتدريس في خمس جامعات أمريكية ، وكنت أتمنى أن تحدثنا عن تجربتها في هذه الجامعات حتى يفيد منها جيل الشباب .

**********

ولكن ليس من حقها أن تنكر حدوث وقائع يعرف كل مصري مدى صدقيتها ، مثل واقعة لقائها بأم كلثوم ، وردها القاسي عليها حينما سألتها عن " أبو الأنوار " بظرف وحسن نية . وكان رد السيدة جيهان عليها " خليكي مؤدبة ؛ ده رئيس جمهورية وأنت حتة مغنية " ، أو عبارة قريبة من هذه العبارة . وما زال بعض من شهدوا هذا الحوار أحياء . وقد بلغ انتشار هذه الواقعة حد التواتر ، وإنكار السيدة جيهان لها لا يغير من الحقيقة شيئا . وهناك دليلان على صحة الواقعة :

1- أن السيدة جيهان لم تنكر ، ولم تنف هذه الواقعة في حياة أم كلثوم . وهنا أذكر المثل العامي " ده مات ، وخد عصايته معاه " ، أي مات فحرمه الموت ، أن يدفع عن نفسه ما يسيء إليها .  وأنا اعتقد أنها لو أنكرت أو نفت هذه الواقعة في حياة أم كلثوم لردت أم كلثوم علي هذا الإنكار ، وذلك النفي .

2-   أن أم كلثوم ــ بعد هذا اللقاء ــ  انقطعت عن الغناء مدة طويلة ، فلما عادت للغناء بعد هذا الانقطاع الطويل لن تكن هي أم كلثوم "الأصل" ، ولكنها كانت أم كلثوم " الصورة " ... لقد فقد صوتها " سره المهيمن" الذى كان له وجوده في مثل ولد الهدى ، ومصر تتحدث عن نفسها ، وشعر أبي فراس الحمداني .  

**********

 والسيدة الفاضلة ترى في زيارة السادات للكنيست غزوا للأعداء في عقر دارهم ، وعملا شجاعا ، لا يقدم عليه إلا قائد كأنور السادات .

وأذكرها بواقعة صاحبت هذه الزيارة لم تشر إليها الصحف المصرية . وخلاصتها أن أحد كبار اليهود صرح قائلا " اليوم تحققت نبوءة التوراة ، فقد جاء فيها : ويأتيكم فرعون خاضعا مستسلما ، يقبل الأرض بين أيديكم " .

و الحديث عن ( كامب ديفيد ) على أنها كانت نصرا سياسيا كبيرا يرفضه الواقع ، وقد وضعه في حجمه الطبيعي كبار الساسة العالميين ومنهم الرئيس كارتر ، وكسنجر وغيرهما . فمما كتبه كسنجر متسائلا : إنني لا أعرف لماذا لا يحاول السادات استعمال حقائق لكي يضغط من أجل انسحاب إسرائيلي شامل ؟ ثم رد كسنجر على نفسه وقال بالحرف الواحد .

" إن السادات فيما يبدو وقع ضحية الضعف الإنساني ، إنه يتصرف بسيكلوجية سياسي يريد أن يرى نفسه وبسرعة راكبا في سيارة مكشوفة ، داخلا في موكب منتصر إلي شوارع السويس ، بينما الآف المصريين يصفقون ويهللون له "  .

وقال الرئيس الامريكي السابق جيمي كارتر في مذكراته التي نشرت في نوفمبر سنة 1982 ما نصه " لقد لاحظت في كامب ديفيد أن السادات يريد أن يتخذ قرارات مصر بنفسه ، ولم يكن يحب وجود أحد من مساعديه معنا ، وكان يبدو بشكل أو بآخر غير مستريح إذا كانوا قريبين منا . وقد كان السادات يقضي وقتا قليلا مع مساعديه ، وعلى العكس من ذلك كان بيجن .... كنا نعد أي صيغة نراها معقولة ، ثم آخذها للسادات الذي كان يلقي عليها نظرة سريعة ويوافق عليها بسرعة ، وأحيانا يدخل عليها تعديلات طفيفة ، ثم كنت آخذ نفس هذه الصيغة إلي بيجن ، وإذا بنا نقضي ساعات ، وأحيانا أياما يشترك فيها الوفد الإسرائيلي كله " .

وفي كتابه القيم " السلام الضائع في اتفاقيات كاب ديفيد " كتب الدكتورمحمد إبراهيم كامل (وزير الخارجية الذي رافق السادات ) :" وقلت له المهم ما هو الاتفاق الذي ستوقع عليه ؟ فأجاب السادات : سأوقع على أي شيء يقترحه الرئيس الأمريكي كارتر دون أن أقرأه .فقلت له : ولماذا يا ريس توقع عليه دون أن تقرأه ؟ إذا أعجبنا وقعنا , وإلا لا نوقع . وهب السادات واقفا , وقال بصوت ملؤه التحدي : بل سأوقع عليه دون

أن أقرأه " واستدار , وغادر التراسإلى داخل استراحته . ص581

و الخلاصة أن كامب ديفيد كانت بداية للضياع و الهوان ، وأذكر أن السادات ــ ألذي كان يفخر بأنه يعرف ثماني لغات ــ  زار "  مدينة بير سبع "التي ضمها اليهود إلي إسرائيل ، وامام العمدة وعدد كبير من الحضور خطب السادات خطبة بالإنجليزية البطيئة الثقيلة . وبعدها نهض عمدة بير سبع اليهودي الإسرائيلي ، وألقى خطبة بالعربية الفصيحة الراقية ، وأذكر أنه مما جاء فيها " ... وباتفاقنا منحناكم ــ يا سيادة الرئيس ــ أرضا مساحتها ثلاثة أمثال مساحة إسرائيل " ( يقصد سيناء ) . وأنا أعجب كيف تقبل رئيس مثل السادات إهانة هذا العمدة بقوله " منحناكم " !! ، ولكنا رأينا السادات يستمع له منصتا، ويهز رأسه وهو يدخن البايب .

********** 

ولست هنا في مقام تقييم اتفاقية كامب ديفيد ؛ فقد تكفل بذلك ـ كما رأينا ـ من هم أعلم مني بالسياسة من مصريين وأجانب .

ولكني أقف أمام نقطة خطيرة جدا أثارتها الهانم ، وهي تصريحها بضرورة التطبيع الشامل مع إسرائيل ، إجتماعيا ، وسياسيا ، واقتصاديا ، وثقافيا ، وكررت هذه الدعوة ، وأصرت عليها ، وتؤيد رؤيتها بقولها " مهو التطبيع قائم فعلا ، فهناك كثيرون من العرب يعالجون في  مستشفايات إسرائيل و.....و... " وإني لأسأل الهانم التي كانت من قبل سيدة مصر الأولى :

1- تعلم أن كل الأرض ألتي تشغلها إسرائيل الآن كانت أرضا عربية فلسطينية نهبها اليهود تدريجيا ، وطردوا منها أهلها ، وما زالوا يلتهمون ما بقي للفلسطينيين من مساحات ضيقة ؟ فهل نطبع العلاقات مع دولة من اللصوص والخونة والناهبيين ؟

2- ألا تعلم الهانم أن في سجون إسرائيل السوداء عشرات من المسجونين الفلسطينيين ؟

3- ألا تعلم الهانم أن الإسرائيليين خلال ثماني سنوات فقط قتلوا 5526 فلسطينين ، وهدموا ونسفوا من البيوت 3800 منزل , هذا غير من قتلوه من المصريين على الحدود بأعذار واهية .

هذا عدا المذابح الدامية التي قتل وحرق فيها ــ من قبل ــ عشرات الالوف ، مثل مذبحة دير ياسين ، ومذبحة دير سنيد وغيرهما .

ومازالوا حتي الأن يغتالون ، ويقتلون ، وينسفون ، وينهبون مزيدا من الأرض 

4-  و التطبيع التى تدعين إليه ، وتجدين فيه ضرورة حيوية يطرح سؤالا ربما لايخطر لك على بال مؤداه : هل تريدين تطبيعا مع اسرائيل بوضعها الحالي ، آمرة  ناهية ،حاكمة , متحكمة , لا مكان للفلسطينيين فيها إلا رعايا ؟ أم تريدين التطبيع مع اسرائيل التى تلتزم بالقرارت الدولية وترجع إلى مواقعها قبل سنة 1967 بل قبل سنة 1956  ، وتقوم دولة فلسطينية ذات سيادة و كيان .                                

أعتقد ــ  يا هانم ــ أن المعروض الثاني لا مكان له في فكرك ، وأنت تعلمين    ــ أو لا تعلمين ــ أن اليهود على مدار التاريخ لا يحترمون سلاما ، ولا قيما ،   وما يرتكبونه حتى الآن يفوق الهوليكوست النازى إن كان هذا الهوليكوست حقيقة كما صور اليهود .

**********  

يا سيدتي ــ التي كانت أولى ــ إن وجود إسرائيل وعدوانها الدائم على الفلسطينيين المساكين ، لا يرجع لقوتها بقدر ما يرجع إلى هشاشة النظم العربية ،وتفريط حكامها,وضعفهم  إلا على شعوبهم ، على حد قول الشاعر "

أسد عليَّ وفي الحروب نعامة              فتخاءُ تنفر من صفير الصافرِ