في عكا هذه الأيام

مرزوق الحلبي

*في عكا هذه الأيام، اتضح أن الشرطة فيما يتعلّق بحماية المواطنين العرب، مجرّد فزّاعات في مقثاية بطيخ! وهو المشهد الأبرز منذ تفجّر التوتّر المحتقن بين يهود وعرب في المدينة مواجهات وأعمال عنف وحرق ممتلكات وشغب. وإقدام شبان عرب على تخريب ممتلكات عامة ومصالح تجارية خاصة في الليلة الأولى للمواجهات وهو فعل مرفوض من أساسه، ينبغي ألا يحجب تخاذل الشرطة وأجهزة الأمن في حماية المواطنين العرب في المدينة سيما أولئك الذين قُيّض لهم أن يسكنوا في أحياء ذات غالبية يهودية. ولأن هذا التخاذل تواصل خمسة أيام متتالية ورغم انتقال المهاجمين إلى إضرام النار في البيوت العربية، لا يُمكننا إلا أن نُشير بأصابع الاتهام للشرطة وقادتها وأكثر إلى مراكز الحكم. خاصة أن الشرطة ذاتها ومراكز الحكم ذاتها سرعان ما تبلي بلاء حسنا في كل ما يتعلّق بقمع المواطنين العرب أو ضمان هدم بيت لأحدهم. وهذا ما يقودنا إلى الاستنتاج البسيط ـ وهو استنتاج نخلص إليه في ظلّ تجارب متكررة ـ أن هذه الشرطة بوحداتها العادية والخاصة تلقت تدريبا في أساسه قمع المواطنين العرب وليس حمايتهم! وهو ما أشارت إليه من طرف خفيّ لجنة أور في تقريرها الذي ظلّ تقريرا فحسب وألمحت فيه إلى روح المعاملة الأمنية للعرب في إسرائيل وهي روح تعتبرهم أعداء لا مواطنين!

لا يمكننا أن نردّ ما حصل في عكا فقط لعنصرية نائمة أو نشطة في صفوف المجتمع اليهودي، العكي تحديدا. وقد تكون هذه العنصرية سببا كافيا لانفلات جماعي ضد العرب لكنها ليست السبب الوحيد. والواقع الإسرائيلي من حيث الفلسفة التي تقوم عليها الدولة والسياسة والعلاقات بين المجتمعين اليهودي والعربي وحسابات التاريخ والجغرافيا والديمغرافيا كفيلة بتوليد ما يكفي ويزيد من أسباب التوتر والاحتقان. لكن سيظلّ لكل موقع خصوصيته وعوامل تفجّره. ولعكا ملامحها الخاصة في هذا الباب ومنها أن العرب واليهود فيها موجودون في خانة الإقصاء والتهميش والإفقار، وأن التنافس الوجودي واليومي بين المجتمعين هو على الموارد القليلة القائمة وعلى مساحة ضيقة للحراك. ومن المعروف أن الصراع في مثل هذه الحالة يأخذ صيغة حادة علما بوجود سذاجة اعتقاد أو وهم أن على المقهورين أن يتحدوا ويتعاونوا! بل العكس هو الذي يحصل في الواقع، يحتدم الصراع على الموارد القليلة أصلا فيما هو يتضمن صراعا خفيا على موقع الضحية المهمّشة. ولأن القيادات السياسية اليهودية على العموم، كعادة السياسة في إسرائيل، موغلة في تسييس الهويات والفقر والقهر والعوز، فإنهم بوحي من النُخب سيوجهون الغضب والتوتر الوجودي ناحية العرب كجماعة في الجوار. وسيشجعون المسحوقين اليهود على لعب دور القاهرين من خلال تطوير أنساق عنصرية وأفكار عنفية وأنماط تعامل عدوانية في العلاقة مع العرب. وإذا لم يكن هذا كافيا فإن استقدام مدرستين دينيتين من التيار الديني القومي ذي التوجهات اليمينية الخطرة في عرف النُخب العلمانية ذاتها، إلى عكا، فقد زاد من التوتّر الموجود أصلا ومن احتمالات تفجيره. ومن شهادات المواطنين العرب يتضح الدور الفاعل لطلاب هذه المدارس في الأحداث.

أمكننا أن نشير إلى "عقدة الخوف اليهودي" كعامل يُغذي العنصرية ويصدّ كل إمكانية لتطور علاقات طبيعية بين المجتمعين. لأن الخوف اليهودي وفي أساسه موهوم أو متصل بالتجربة اليهودية في فلسطين، يتحوّل بفعل سياسات النُخب اليهودية وبتغطية من أوساط في مراكز الحُكم

إلى سياسات وإجراءات على الأرض تستهدف العربي. وعلى نحو ما شكّلت الهجمات المنظمة على المواطنين العرب في عكا هذه الأيام وجها فظا لاستهداف المجتمع العربي في البلاد من خلال تشريعات وإجراءات وسياسات تمييز منهجية نازلة من مراكز الحكم إلى الواقع.

هناك نسق ثنائي في تعامل السياسة الإسرائيلية مع العلاقات اليهودية العربية يعتمده اليهود والعرب على السواء. في الطرف الأول فرضية وجود تعايش وعلاقات سوية. وفي الثاني فرضية أن العداء المتبادل هو سيد الأحكام وأن لا مكان لإصلاح العلاقات وجعلها سوية أو معقولة. والدولة على نُخبها عززت من خلال سياساتها هذا النسق الثنائي. وعمدت إلى استغلال أحد شقّيه وفق ما يتفق مع أهدافها. فمرة تشيد بالتعايش ومرة تعزف على أوتار العداء وتؤجّجه. ومع هذا فإن هذه النُخب، لم تعرف، عبر مراكز الحُكم، كيف تسوّي هذه العلاقات في مواقع تفجّرها المحدودة أو عندما كان التفجير بين هذه المراكز وبين المجتمع العربي في الدولة. ولا نقول هذا لنعفيها من المسؤولية بل لنحمّلها كامل المسؤولية عما حصل في هذا الباب من قمع ومن اضطهاد. والروزنامة مليئة بأيام قمع وقهر تجلت فيها عنصرية مراكز الحكم وعسفها وشدة قبضتها تجاهنا كعرب أو بمقولات وتصريحات رسمية حول أهمية التعايش المشترك.

نحن العرب أول مَن ينبغي أن يكون معنيا بتقويض هذا النسق الثنائي المتأرجح بين تعايش موهوم أو عداء مفترض، في العلاقة مع المجتمع اليهودي ومراكز الحكم فيه. ومن هنا أهمية تفكيك كل بُناه المتأصّلة والطارئة. وتشكّل الوثائق الصادرة من سنتين أساسا متينا للانطلاق نحو مبادرات عربية تفكّك ذاك النسق وتضع مراكز الحكم أمام مسؤولياتها. وليكن ما حصل في عكا بداية لعمل مدروس في هذا الاتجاه.