إنها دماء من ماء
أ.د/
جابر قميحةما أكثر المصائب و الكوارث التي حطت و تحط بالمصريين في عهد حكم الحزب الوطني " حزب الأغلبية المدعاة " ... مصائب تأكل البشر ، وتأكل المال ، وتأكل المساكن . و القائمون بالأمر من الكبار الكاتمين أنفاسنا لا يهمهم من الأمر شيء ، وكأننا شعب من الهنود الحمر أو من أهل استراليا الأصليين .
وكل كارثة تنزل يالشعب يقابلها " الكبار " بعبارات عاطفية ، ظاهرها فيه الأسى والحزن و الرحمة ، وباطنها ينطق بالاستهانة واللامبالاة ، ولا شك أنهم يعلمون أن شعبنا شعب طيب ، سموح ، نَسَّــاء أي كثير النسيان .
ومن حق الآخرين من شعوب المنطقة أن يصفوا مصر بأنها : بلد الحرائق وبلد العمارات المنهارة ، وبلد التخلف المعيشي و المستوي الاجتماعي . والحيثيات التي تؤكد هذه الأحكام ينطق بها الواقع المشهود :
- حريق دار الأوبرا .
- حريق قطار الصعيد .
- حريق مسرح بني سويف .
- حريق مجلس الشورى .
- انهيار عمارة مصر الجديدة من بضع سنين ( وكانت جديدة البنيان ، وانهارت على من فيها وما فيها لأنها بنيت بنوع من الأسمنت مغشوش ) .
- انهيار عمارة الأسكندرية .
وغير ذلك من بيوت وعمارات . ومن ينسى كارثة العبارة إياها ؟ وغرق معديات النيل ؟ وغرق مئات الشباب اللذين ابتلعهم البحر وهم يفرون من مصر إلي إيطاليا و اليونان بعد أن ضاق بهم العيش في مصر " المخروسة " .
والآن نعيش كارثة الكوارث المتمثلة فيما نزل بمنطقة الدويقة : صخرة بل صخور ضخمة تندفع لتكتسح كل ما أمامها وكل من أمامها من بيوت و" مخلوقات " نائمة في جحورها التي تسمى مجازا بيوتا ، فقتلت العشرات وجرحت العشرات ، ودفن مئات تحت الركام القاتل ، قال بعضهم إنهم لايقلون عن 500 " مخلوق " يعيشون على هامش الحياة ، ولا يتمتعون بجزء من الحد الأدني لما تعيش عليه الحيوانات .
***********
ما رد الفعل لهذه الكارثة عند " الكبار جدا " ؟ رد الفعل معروف وقد تحدثنا عنه من قبل في مقالات متعددة . و أكتفي بعرض بعض العناويين الرئيسية في الأهرام . ففي أهرام الأحد 7/9/2008 نقرأفي الصفحة الأولى العناويين الأتية :
- كارثة إنسانية في منشأة ناصر بالمقطم .
- انهيار كتلة صخرية تزن 100 طن علي 35 منزلا يسفر عن مصرع 23 وإصابة 39 مواطنا .
- توجيهات عاجلة من مبارك للحكومة بتوفير مساكن بديلة للمنكوبيين وتعويض أسر الضحايا .
وفي أهرام الاثنين 8/9/2008 تتصدر العناويين الاتية :
- مبارك يصدر توجيهات بسرعة تسكين متضرري الدويقة و إخلاء المنطقة المهددة بالخطر .
وهذا " المنهج " ؟ يطرح سؤالا خطيرا جدا هو : ما القيمة العملية للوزير في مصر ؟ ألا يملك حرية الحركة وحرية التصرف تجاه مشكلات الوطن ؟ أم أنه مجرد ظل لا يتصرف إلا بتوجيه من الرئيس .؟
إن" توجيهات الرئيس تعد اتهاما غير مباشر للوزراء المسئولين بالتقصير الذي قد يصل إلي درجة العجز . وأقول لو فرضنا أن الرئيس لم يصدر توجيهاته هل سيتوقف الوزراء و كبار المسئوليين عن أي تصرف إلي أن تصدر قرارات سيادية؟
إنها اللامبالاة وانعدام الشعور بالمسئولية .
إن كل أمم الأرض تؤمن عمليا بأن الوقاية خير من العلاج ,أما كبارنا ـ على ما يبدو- فيؤمنون بأن العلاج خير من الوقاية ـ وغالبا ما يكون العلاج خائبا ، أو من قبيل المسكنات ، وانعدام الجدية و التصدي للكارثة ، وإلا فما قيمة التصريح الرئاسي بأن حريق مجلس الشورى لم تتعد خسائره 150 مليون جنيه ستتحملها الدولة .والأدق من ذلك أن يقال يتحملها الشعب المصري عن طريق الدولة برفع الاسعار، ومزيد من الضرائب ... الخ
**********
ولو أخذ المسئولون الكبار بقاعدة الوقاية خير من العلاج لما وقعت هذه الكارثة .
وأدعو القارئ أن يقرأ معنا الخبر التالي الذي نشرته أغلب مواقع النت :
تحت عنوان
الحكومة تلقت أموالاً لإنهاء أزمة الدويقة منذ 7 سنوات!!
كشف محمد الحلو مسئول الوحدة القانونية بالمركز المصري لحقوق الإنسان أن المركز لديه معلومات ووثائق تُفيد بأن الأمم المتحدة قدَّمت حزمةً من الأموال للحكومة المصرية منذ سبع سنوات لإنهاء أزمة منطقة الدويقة، مشيرًا إلى أن هذه الأموال غير معلوم أوجه صرفها حتى الآن.
وأشار إلى أن الأمم المتحدة تابعت القضية منذ بدايتها، وطالبت من محمد إبراهيم سليمان وزير الإسكان السابق في عام 2001م بضرورة اتخاذ الإجراءات التي تكفل حماية الحق في السكن بصفة خاصة في مجال ضحايا الإخلاء القسري كما هو في حالة سكان الدويقة.
وعبَّرت الأمم المتحدة في 2001م عن انزعاجها من استخدام العنف ضد المواطنين أثناء الإزالة وتحطيم أثاثات منازلهم، مؤكدةً أن هذا يخالف حقوق الإنسان بشكلٍ عام والحق
في السكن بشكلٍ خاص، وطالبت بضرورة التزام المعايير الدولية والتزام مصر بتطبيق العهود والاتفاقات الدولية الخاصة بالحق في سكن مناسب
وكانت محافظة القاهرة قامت بإزالة 25 منزلاً لسكان الدويقة في 21 مارس 2001م بالقوة الجبرية، وأدَّت إلى تشريد 32 أسرةً ما زالوا يقيمون في نفس المكان بين الأنقاض "
وهذا يعني أن دم هؤلاء الضحايا في عنق الدولة لأنها قامت بما يسمي في القانون "جريمة قتل بالترك " .... وربما كان الأصح أن نقول إنها جريمة قتل بالنهب .
**********
وهناك من الخبراء المتخصصين من قدم دراسة وافية عن كوارث ماحقة قادمة في منطقة المقطم مؤداها أنها كلها غير صالحة للبناء . ومن أهم هذه التقريرات تقرير الدكتور خالد عودة أستاذ الطبقات والحفريات بكلية العلوم- جامعة أسيوط، وأحد أهم خبراء الجيولوجيا حول العالم .
ومما جاء في هذا التقرير بالنص :
** ما حدث في الدويقة هو نتيجة طبيعية جدًّا ومُتوقَّعة منذ العام 1993م، فحواف جبل المقطم المطلة على القاهرة هي حواف غير طبيعية (غير مستقرة)، فقد تعرَّضت على مدار الزمن إلى التكسير بصفةٍ مستمرة، فمنذ القدم استخدم القدماء المصريون حجارة المقطم لبناء الأهرامات وحتى في عصرنا الحديث، فالمقطم يُعتبر من أهم مصادر الحجارة الجيرية والتكسير مستمر فيه منذ قديم الزمن، وهناك لجان جيولوجية عدة تشكَّلت منذ العام 1993م، حذَّرت من مثل هذه الحوادث.
* وما النتيجة التي خلصت إليها تلك اللجان التي حذَّرت بناءً عليها من مثل هذه الحوادث؟
** هذه اللجان خلصت إلى أن الحجر الجيري المكوِّن لجبل المقطم يذوب بسبب تسرب المياه إليه، خاصةً مياه الصرف الصحي، وأن الشقوقَ بين الصخور تزداد اتساعًا وتتآكل، وأن هذه كلها شواهد تُنبِئ بانهيار حواف الجبل .
ومع ذلك لم يلتفت واحد من المسئولين إلى هذا التقرير الخطير الذى كتبة رجل من أبرع المتخصصين علي مستوي العالم كله .
وفي النهاية نقول : لك الله يا مصر ... لك الله يا مصر .