الحقيقة الموجعة
الحقيقة الموجعة
خالص جلبي
(1)
أرسل لي من سان دييجو من تتبع مقالتي عن جهنم الغرب فقال الوقت يتغير؟؟ وأنا استفدت من محمد إقبال فلسفته التي تنص على عدم التغير الوثنية كثيرا فقط الملابس في حفلة تنكرية؟؟
فقال رحمه الله: تبدل في كل حال مناة ...
شاب بنو الدهر وهي فتاة
الحقيقة في الغالب مريرة وموجعة؟ تصعب مواجهتها وتشق مراجعتها، وحين تطالع وتدرك؛ يكون لا فوت ويقذفون بالغيب من مكان بعيد؟
وحسب القانون 32 من شطرنج القوة عند روبرت غرين فإنه كثيرا ما يتجنب الناس الحقيقة لأنها" قبيحة وبغيضة" وينصح أن لا نتوجه إلى الحقيقة والواقع ما لم "تكن مستعدا للغضب الذي ينجم عن الصحوة من الوهم أو السحر، فالحياة قاسية وضاغطة بكربها إلى درجة أن الناس القادرين على صنع الأحلام أو استدعاء الخيالات والأوهام يشبهون الواحات في الصحراء، فالجميع يتقاطرون إليهم"
لينتهي بهذه الفقرة:"إن هناك سلطة كبرى في فتح مسارات لخيالات الجماهير؟".
وحين كتبت أنا عن جهنم الغرب، التي اكتويت بنارها، فخرجت كما خرج إبراهيم من النار، فقال الرب كوني بردا وسلاما على إبراهيم؟ علق الكثيرون بين من ظهر في الانترنت، وبين من راسلني مباشرة، أو من أرسل لي رسالة بالموبايل. أو لم يفهم علي قط ودخل في مماحكات لاهوتية، لا تنفع في تقديم الحل إلا بعدا عن الحل؟
فلم يتفطن إلى كلمة (الجبار) كان المقصود منها من يقتل اثنين، كما جاء في قصة موسى، إن تريد إلا أن تكون جبارا في الأرض؟؟ فقال المفسرون عند هذه القصة الجبار من قتل اثنين؟ والسبب واضح أنه استمرأ في القتل ويمكن أن يصل بعده إلى مليونين مثل بول بوت، أو نظرائه في كثير من مناطق العالم العربي..
ونحن هربنا ممن قتل ليس اثنين بل مليونين؟ بين دفن وحبس وهريبة؟
وهناك رجل فاضل أقدر علمه، عاب علي أن أذكر عيوب الغرب، وقال لي بالحرف الواحد؛ بقدر ما كانت مقالتك عن أرض العبقريات عبقرية، بقدر ما كانت مقالتك عن جهنم الغرب في الاتجاه الغلط، فمحوت مع سيآت هذه المقالة حسنات تلك..
والله يقول: إن الحسنات يذهبن السيآت ذلك ذكرى للذاكرين..
وهذا يذكرني أيضا بمؤتمر حضرته في مسجد ميونيخ أثناء رحلة تخصصي في ألمانيا، حين تعرضوا لعيوب المجتمع الغربي، وكان تعليقي يومها: علينا أن لا نترصد عيوبهم، بل حسناتهم للاستفادة منها، وليموتوا في عيوبهم..
وهذا المبدأ صحيح، وأصح منه فهم كامل الطرفين، وطيف العلاقتين؛ فهذا أنضج وأبرك وأدعى للهدى..
كما يذكرني بخطبة ألقيتها في مسجد مدينة جيسن شمال فرانكفورت في ألمانيا، حين قلت لهم إن سبب وجودهم في أرض (الكفار كذا؟) هو ثلاث: هارب في لجوء سياسي، أو هارب جوع؟ أو طالب علم؟ وهذا يعني أن البحث عن الرزق والكرامة والأمن والأمان، في بلاد الألمان، هو الدافع للهرب والعصيان، وان هذا يجب أن يفهم في ضوء جديد؛ فلم يعجب القوم مقالي، وقال هذه بلاد كفر وأهلها كافرون.
وانأ كان هدفي العدل، كما وصى نبي الرحمة أتباعه بالهريبة والفرار، إلى بلاد لا يظلم فيها إنسان، في الحبشة، ولم يكن فيها حاكم مسلم، بل عدل وامان، مثل بلاد الجرمان، والفرنساوية وبلاد كندا والطليان، وظلام السويد مع شمس العدالة، التي هرب لها أخي رياض، بعد أن ضرب بهراوة وعقب مسدس، من أستاذه شمس الدين بدون شمس ..
وفي تقديري أن الارتكاسات تنوعت، لأنني لامست عصبا في الحياة مؤلما، يعتبر لمسه مزعجا وتفقده كربا.
ومن بين من أرسل رجل قال لي: إن العبرة في الأطباء ليس أنهم تخرجوا من (نيبال) أو (نيابل) بل حسن (الأداء)، والفرق هائل بين نيبال(Nepal) ونيابل (Neaple)؛ فالأولى منطقة من سفوح همالايا، نفع رجال الجوركا فيها بالطبنجة والخنجر والغدارة، أن يخدموا في صفوف الجيش البريطاني فيحسنوا مهنة القتل بأقل ملامسة؟
والثانية من سفوح الألب من إيطاليا حيث سرت أنوار النهضة (الرينسانس).
وحين قرأت أين يعمل؟ اكتشفت أنه هندي يعمل في سان دييجو في أمريكا فعرفت السبب، فهو يدافع عن جماعته من كيرلا وهو قاعد في حضن العم سام؟
وهو دفاع غير ناضج لم يستوعب عمق المسألة بعد؟
فالوسط يغير من طبيعة الأشياء، والنحل يمكن أن يصنعوا من بينهم ملكة حين تهوي.
والبعوض يتمتع بحصانة طالما بقيت المستنقعات، والديكتاتور يورث ذراريه من بعد نفوقه السلطة بفضل الخنجر والسبطانة والجاندراما والمخابرات، فيعتلون ظهر شعب فقد قدرة تقرير المصير..
(2)
لو ظهر حاليا فرعون بيبي الثاني أو بسماتيك الأول فـ (شحناه) بالبريد المضمون من صعيد مصر إلى كارديف في بريطانيا، أو إلى سان دييجو محل صديقنا بكر استشاري الأشعة، الذي غضب من مقالتي عن جهنم الغرب وتعاسة الشرق، لأصبح أي رعمسيس وإخناتون ومعهم خاتون من أيام الأيوبيين جدا ديمقراطيون، ولكنه لو بقي في الصعيد ورجع القهقرى في الزمن لأصبح فرعونا جبارا في الأرض من المسرفين، فالثقافة عندها قدرة تشكيل مخيفة للذات..
ونحن في التخصص الطبي لا يكفي (المعلومات) بل بالضبط كما أشار له الدكتور بكر البار (الأداءPerformance ) فمن يتدرب في ألمانيا غير من يتدرب في نواكشوط وبين الجنجويد، و(خلف) الذي كان يعمل معي، تحول في بريطانيا خلقا آخر..
والأداء قصته عجيبة يمكن أن تفهم من هذه القصة:
طلبتني الممرضة عند الساعة الثالثة صباحا!! قالت: المريضة تنزف أنا آسفة أنني اتصلت بك وأعرف أنه يجب علي أن اتصل بالمقيم المناوب ليقفز للحالة وهو الذي يتصل بك ويقرر خطورة الحالة من تفاهتها؟!! كررت أنا آسفة فلقد اتصلنا به مرارا فلم يجيب؟ قلت لها لا حرج عليك !!
ثم قفزت من فراشي كما تعودت طيلة ثلاث عقود فورا ودون أي تأخير وخلال لحظات وبدون غسل وجه لأن حياة المريض في الميزان!!
هكذا تعلمنا في ألمانيا (الأداء والسلوك= Attitude , Performance) وعلى هذا يحاسبون أشد الحساب لأن حياة الإنسان تأتي في الدرجة الأولى قبل كل اعتبار..
وهي من القواعد الخمس التي قررها فقهاؤنا قبل خمس قرون عن حفظ العقل والنسل والعرض والمال والشريعة والحياة فقالوا الحياة تقدم، ولو كان فيها حرمة أكل لحم الخنزير وشرب الخمر!!
ولكن بيننا وبين الفهم مسافة أكبر من خمس قرون؟؟
وصلت كالعقاب طائرا إلى القسم، وأنا الاستشاري ولم يكن في بالي أن أبحث عن الطبيب المقيم المتدرب في الشرق الأقصى والأدنى، والقارة الهندية والبر الصيني وفورموزا وتايلاند وكمبوديا وجزيرة سخالين وكمشتكا، بل كنت أبحث عن مكان المريضة التي تنزف..
إن النزف يعني الحياة أو الموت فلا تأخير قط؟؟
في هذه اللحظة ظهر المقيم الهمام، وبالطبع فلغتهم الانجليزية المكسرة ترطن بلكنة ليست من ويلز أو أيرلندا بل تحكي فارق خمسة آلاف كم.
قلت له أين كنت دكتور؟ قال أنا مسئول عن الجراحة الخاصة!! حسنا!!
أما مرضى الأقسام الأخرى؟ فمسئول عنها مقيم الجراحة العامة؟؟
قلت له فلنفترض أن مقيم الجراحة العامة مات واندثر وغاب وهلك ما كنت فاعلا ؟؟
وفي تصوري أن هذا التقسيم السقيم والتصرف أو السلوك والأداء الذي تحدث عنه طبيب الأشعة من أمريكا في سان دييجو هو الذي يجب أن يتعلمه الطبيب قبل المعلومات؟؟ وهذه عندنا مفقودة.
كان الله في العون حتى إشعار آخر، فهكذا تبنى الحضارات وهكذا يخسف الله الأرض بالحضارات..
ولو كان أحدنا في الطريق أو الطائرة أو حافلة أو ساحة عامة ورأى من ينزف فإن واجبه أن يسعى لإنقاذه؟
فهذا خلق وتصرف، وهو ما يتربى عليه الإنسان في الغرب فيدخل تحت جلده ولحمة أعصابه وينغرس في اللاوعي..
أما في الشرق التعيس فهي كما رويت عن قصة" خلص الدوام والتوقيع؟؟ "
فحين كنت أحاول فتح صدر شاب تمزقت رئته بحادث، طلبت من مقيم حولي، أن يركض لغرفة العمليات، ويحضر أنبوبا لوضعه في الصدر كي لا يموت مختنقا من الداخل؟
اختفى الطبيب المقيم؟!!
فلما سألت عنه قالوا: لقد وقع وانصرف لأن الدوام خلص؟؟
إن قصص الأطباء المقيمين مهازل كاملة، أما حضرات الأطباء الاستشاريون فكوارث تنشق منها الجبال..
وتطبيقا للحقيقة الموجعة فقد أرسل فرحا أن أحدا ممن يعرف أصبح جراحا فكان جوابي التالي:
هذا خبر غير سار وكان الله في عونه لثلاث عيوب: انتفاخ الجيب وفراغ الدماغ، والانشفاط في ثقب أسود من التخصص والحياة ليست كذلك..
والتوقف ثقافيا في مرحلة البكالوريا بدون انتباه إلى أنه متوقف في هذا المربع في معظم الأحوال..
وحمل لقب كبير بدون الوعي لعمق هذه المسئولية ولذا كانوا قديما يسمون الأطباء حكيما واليوم لا حكيما ولا حميما...