ومن يطفئ نار الشعب المحروق

ومن يطفئ نار الشعب المحروق ؟!

أ.د/ جابر قميحة

[email protected]

إن من أهم سمات العهد القائم الذى تجاوز ربع قرن , و الله وحده يعلم إلى متى سيستمر امتداده . أقول إن من أهم سمات هذا العهد " التناقض الممزوج بالعبثية , مع التطرف الشائن في طرح هذه المتناقضات العبثية : منها تناقض بين الواقع المر , وما يعبر عنه من تصوير وردي , ووعود براقة :

فالاقتصادالمصري في واقعه اقتصاد ممزق , و لكن الكبار جدا يصورونه على أنه اقتصاد متقدم متطور,و هو في تقدم مطرد , بصفة دائمة , وأن الحكومة تقف مع محدودي الدخل , و تعمل على رفع المعاناة عن المواطنين , و تحاول جادة القضاء على الغلاء الذى يمثل موجة عالمية الخ.... و كل أولئك فقاقيع طائرة فى الهواء لا تعرف الصدق و لا الفاعلية بل يدخل فى باب العبثية , و الضحك على الذقون , حتى أصبح من الأمثال السائدة فى الأوساط الشعبية " متصدقش فلان دا كلامه زي كلام الحكومة ".

 ومن أمثلة التناقض الفعلي تبرئة قاتل لما يزيد على ألف مواطن بريء في عبارة مخروبة

, و تجريم الأبرياء من أعضاء " الجماعة المحظورة " و الحكم عليهم ــ في محكمة عسكرية

 ــ بأحكام قاسية جدا , مع أنهم معروفون عند الناس , و في الأوساط التى يعملون فيها بأنهم من أشرف الناس , و أنقاهم , و أنظفهم يدا .

 ومع ذلك تجد من يرفع هذا التناقض بين الحكمين , من صحفيي مدرسة المستنقع , متذرعين بمصلحة الوطن , و بالصالح العام , بل بلغ السقوط بكبير جدا من كبار القائمين على الحكم هوة لا قرار لها , فوصف الإخوان بأنهم أشد خطرا على مصر و العرب من إسرائيل ,

و اليهود الصهاينة " .

 ومن التناقضات العبثية ما رأيناه من زيارة السيد جمال محمد حسني مبارك لقرية " ننا " التى قالوا إنها أفقر قرية في الصعيد , و سماعه لشكاوى الفلاحين, و تناوله الطعام مع الفقراء في تواضع جم , و ختمت الحكاية بأن قدمت له امرأة عجوز درعا للدلالة على مكانته " في قلوب الجماهير " !!!

وهناك أسئلة تلح علينا جميعا أمام هذه العبثية و إن كانت الإجابات معروفة مقدما :

1- هل ما حدث في القرية يمثل نهجا جديدا السيد جمال بالنسبة لكل القري الفقيرة ؟

2- ما القيمة العملية ــ غير الدعائية ــ لهذة الزيارة ؟

3- هل الذين حضرو الحفل من الفقراء خضعوا للاختيار الأمني , أم كان السرادق مفتوحا لكل من يريد أن يتقدم بشكواه ؟

4- هل يمكن أن تحل هذة الزيارة و أمثالها أية مشكلة من مشكلات الشعب ؟.

أقول إن الإجابات معروفة واضحة , لا يختلف عليها اثنان . و" الركلامية " , أو "الإعلامية " أوضح من أن ننص عليها , بدليل أن كل صحيفة من الصحف المسماة قومية أفردت صفحة كاملة لهذا الحدث الخطير جدا. !!!

**********

وامتدادا لهذة التناقضية وتلك العبثية نقف قليلا أمام ظاهرة الحرائق . و كمدخل موجز أقول : أنني قرأت من بضع سنوات بحثا عن " فن إطفاء الحرائق في اليابان " , فاليابنيون يطفئون الحرائق بالوسائل الآتية:

1- الاحتفاظ في كل طابق من البناء بأنبوبة في حجم أنبوبة البوتاجاز , إذا شمت النار انتشرت المادة المضغوطة داخلها , و أطفأت النار المشتعلة في الطابق كله .

2- فذائف مدفعية بلاستيكية , تطلق بالمدافع من الخارج إلى مركز الحريق , فتشتعل في إطفاء الحرائق بما تحمله من ماده سائلة أو غازية . مع ملاحظة أنها لا تسبب أضرارا للأحياء من البشر إذا كانوا محاصرين داخل الحريق .

3- فذائف مماثلة تطلق من الطائرات .

4- الماء الكثيف جدا فى الأماكن المفتوحة التى اندلعت فيها النيران .

**********

اجتررت هذه المعلومات و أنا أشاهد طريقة إطفاء " الحريق المصري " الذي اندلع في مجلس الشورى , ومجلس الشعب بخراطيم طويلة وماء نفد بعد قليل , و بط ء شديد في حركة جنود الإطفاء , مع التواء الخراطيم و تعقدها .

**********

و سواء أكان الحدث قدريا أم بفعل فاعل فإن الحكومة هي المسئول الأول لعدة أسباب أهمها :

1- إغفال ما تتطلبه هذة المباني من صيانة وحراسة , وآليات السلامة .

2- بدائية وسائل الإطفاء وتخلفها من خراطيم و خزانات .

3- هبوط مستوى خبرة رجال الإطفاء و قلة تدريبهم .

ثم الإستهانة بالحادث وكأن كل شئ انتهى إلى خير, وذلك بما نشرتة الصحف من تصريحات الرئيس والوزراء .

وطبعا ستكون إعادة البناء والترميم من دم الشعب الجائع الفقير المحروم المحروق . ودعك من تصريحات الرئاسة : إن الحكومة ستتكفل بإعادة البناء وترميمه . كأن الحكومة تملك بحرا من الفلوس , ولا تمد يدها للشعب لاستنزافه بالضرائب . و بعض تصريحات الكبار تقول :

 إن رجال الأعمال سيتكفلون بالبناء والترميم

**********

وهناك ظاهرة جديرة بدراسة موضوعية عادلة , وهى شماتة المواطنين ــ بعد الحريق ــ في النظام القائم بصرف النظر عن مستواهم العلمي و الاجتماعي .

وقد يرجع هذا الى إيمان المواطنين :

1- بأن الأغلبية فى المجلسين أغلبية مزيفة. وفي ذلك استهانة بالشعب و كرامته .

 2- من المجلسين صدرت قرارت و قوانين شعر الناس بان فيها ظلما فادحا وارهاقا لهم .

و يبقي صوت المعارضة ضائعا مطموسا تحت بحر من تهريج أعضاء الحزب الحاكم .

3- الإسراف الشديد جدا في الإنفاق على تجهيز حجرات الكبار : كمكتب السيد صفوت الشريف , و قد أتت عليه النار كله .

4- التصريحات المضحكة الساذجة بعد كل نكبة حرائق كتصريح رئيس الوزراء أحمد نظيف " بإن الحكومة اتخذت كل التدابير والإجراءات لتأمين المنشآت العامة والأثرية من أخطار الحرائق ". ألأهرام - الخميس 12 / 8 /2008 .

فالشعب قد سمع مثل هذا التصريح من قبل بعد حريق الأوبرا , وحريق قطار الصعيد , وحريق مسرح وزارة الثقافة في المنيا بما فيه ومن فيه .

وهذا يعني اننا أشد دول العالم تخلفا في هذا المجال ؛ فكل بلاد الدنيا الجديدة , و الدنيا القديمة تؤمن بأن الوقاية خير من العلاج . أما حكومتنا فتؤمن أن العلاج خيرا من الوقاية , و أمام هذه القاعدة الأخيرة :

- يكون ذلك مجرد إدعاء , أى لا يكون هناك لا وقاية و لا علاج .

- يكون العلاج ــ إذا حدث ــ سطحيا أو جزئيا .

- لا يستفاد من هذا العلاج ــ لو تم ــ في الأحداث الكارثية اللاحقة .

و كأنه ــ كما قلنا ــ لا وقاية ولاعلاج .

و من عجب أن يخرج علينا السيد المحترم " جدا " أسامة سرايا رئيس تحرير الأهرام بمقال تبريري طويل . ومما جاء فيه : وثمة حقيقة لابد من الوقوف عندها في حريق مجلس الشوري هي تلك المشاعر الوطنية التي تأججت عقب الإعلان عن الحدث‏.‏ كانت مشاعر الحزن العامة تعبر عن شعب حزن علي أمته وعلي تاريخه‏.‏ 

كما كان تحرك الدولة معبرا عن عمق الوعي لحقيقة ماحدث‏..‏ اصطف رجال الداخلية والقوات المسلحة والمواطنون معا في مواجهة النيران‏.‏

 ------

التهمت النيران مبني مجلس الشوري في وقت كانت تلك المؤسسة الدستورية قد نفضت عن نفسها غبار الضعف وتراجع الدور والتأثير‏,‏ فقد شهدت السنوات القليلة الماضية حيوية ونشاطا لم تعهدها في هذا المجلس منذ تشكيله في إبريل عام‏1979.‏

وقد أعاد صفوت الشريف إلي هذا المجلس سابق عهده في سنوات مجده الديمقراطي وتصاعدت الآمال في أن يتحول مجلس الشوري إلي قوة برلمانية فاعلة تشتبك مع الواقع السياسي المتغير وتدفع بالمسار الديمقراطي خطوات الي الأمام‏.‏

وأحسب أن مجلس الشوري في الفترة المقبلة سيقف بحسم تجاه تلك القضية المهملة في تأمين منشآتنا السكانية والإدارية والتاريخية والمعاصرة والجديدة جنبا إلي جنب مع دورها المتعاظم والمرتقب في حياتنا السياسية وتطور مسيرتنا الديمقراطية‏.(الأهرام – 22 8 2008

 وكل ما ذكره سرايا‏ لا يحمل ذرة واحدة من الصدق , وحرام أن أهدر وقتي في نقض هذا الهراء المدفوع الأجر .

***********

أما الخبراء المتخصصون العدول فيدينون الحكومة إدانة حاسمة .ونكتفي بشهادة الدكتور محمد مرسي :

أشار الدكتور محمد مرسي أستاذ علم المواد بكلية الهندسة جامعة الزقازيق وعضو مجلس الشعب السابق، إلى أنه حزينٌ على ما حدث لمبنى مجلس الشورى؛ لأنه بمثابة حرق البرلمان، وهو ما يحمل العديد من الرسائل المخيفة عن حاضر الوطن.

مشيرًا إلى أن القراءة الأولية للحريق تشير إلى عدة أمور في غاية الخطورة، تصبُّ في النهاية في خانة الإهمال الجسيم الذي يهدِّد كل مصالح مصر؛ ليس من خلال الحريق فقط وإنما من خلال السرقة أيضًا؛ لأن الحريق كشف عن إهمال جسيم في عمليات الأمن، سواءٌ المدني أو الصناعي؛ مما يجعل تعرُّض المباني المهمة لأية أعمال تخريبية أمرًا واردًا إذا لم تُعِدْ الحكومة حساباتها تجاه مؤسسات الدولة الحيوية.

وفيما يتعلَّق بالحريق وباعتباره أستاذًا متخصصًا في علم المواد؛ أكد د. مرسي أنه لفت نظره الصور الأولى للحريق، والتي ظهر فيها حريق كل الغرف في وقتٍ واحدٍ، وهو من الناحية العلمية أمرٌ مستبعدٌ، خاصةً أن المبنى من الخشب، وتأثُّره بالماس الكهربائي محدود، ويحتاج إلى وقت كبير حتى يتفاعل الخشب مع النيران بهذا الشكل اللافت!

موضحًا أنه غير مقتنع بأن الماس الكهربائي حدث في كل الغرف مرةً واحدةً؛ لأنه شيء غير منطقي، إضافةً إلى أن الطابع المعماري للمبنى يمتاز بالطول والاتساع؛ مما يعني أن كل غرفة من غرف المبنى تحتاج إلى ساعة على الأقل لتصل إلى درجة الحرارة اللازمة لكي تخرج منها هذه النيران الصفراء التي شاهدناها وحتى تتفاعل معها زيوت الطلاء الموجودة على الجدران.

***********

ومن يطفئ نار الشعب المحروق ؟؟

رحم الله ذلك الصوفي التقي النقي الذي كان يهتف في المساجد والشوارع في عهد الخليفة العباسي المنصور , و ما رأه فيه من مظالم " أيها الناس : إن في قلبي نارا لا يطفئها إلا برد عدل , أو حر سنان " , و أمام هذا الصوت القوي كان الناس يتفادونه و يتركون له المكان خوفا من جنود السلطان .

 و لو ملك الشعب المصري منطق هذا الرجل لأخذ كل مواطن فيه يردد " إن في قلبي نارا لا يطفئها إلا برد عدل , أو حر سنان " .

فمثل هذا الشعب لاينسى أيامه السوداء في ظل هذا النظام .وعلى سبيل التمثيل إنه لا ينسى ما أصابه يوم الأربعاء السابع عشر من ديسمبر سنة 2005 .الذي سيظل نقطة عار وخزي وشنار في تاريخ الحكم المباركي.. .. إنه يوم المهرجان الملتهب المتوهج الكبير.. بل أكبر مهرجان أقيم في هذا العهد الذي التهم من الزمن ـ حتى الآن ـ ربع قرن.

ـ إنه مهرجان أريقت فيه الدماء البريئة الحرام.

ـ إنه مهرجان ضُرب فيه القضاة، وأهينوا، واعتدي عليهم سِفْلة السفلة من رجالكم.

ـ إنه مهرجان لفنون التزوير القذر، والتزييف الشيطاني الحقير الخسيس.

ـ إنه مهرجان مزق فيه عرض مصر، وهتك فيه شرفها، وداست على فُتاته الأحذية الغليظة الملوثة السوداء.

ـ إنه مهرجان الكذب الصارخ البُواح: باتهام الأبرياء بالبلطجة، والقتل، وإحراز السلاح.

ـ إنه مهرجان التستر الكبير على المجرمين الحقيقيين، والجناة القاتلين الذين تنكروا للحد الأدنى من القيم والرجولة والضمير.

ـ إنه مهرجان البراعة الكبرى في إبراز القدرة الفائقة على إشعال معركة من جانب واحد، أسلحتها العصى الغليظة، والقنابل المسيلة للدموع، والمسدسات، والمدافع الرشاشة، وماء النار، والرصاص المطاطي، والرصاص الحي، والضمائر الميتة، والقلوب العمياء.

***********

و شعبنا يعيش الآن بينه و بين النظام القائم حجاب ثقيل جدا , أقوى من حديد عز بكثير ... إن هذا النظام يتمتع بكراهية من الشعب قوية مكينة . فهو شعب يعيش محترقا بنيران متعددة , ولا يجد من يرثي له من الحكام أو من أعضاء غالبية المجلسين المحترقين : و هو يعيش محترقا بنار اسمها قانون الطوارئ , ذلك القانون الذي حول مصر من دولة , إلى كيان بوليسي ظالم , لا مكان للقانون فيه , بدليل أن القاضي قد يحكم حكما نهائيا بالبراءة لمواطن , و لكن رجال الأمن يلقون القبض عليه باسم قانون الطوارئ , وقد اقترحت في مقال سابق أن تجعل الحكومة قانون الطوارئ هو الأصل , والقانون الأصلي هو الاستثناء .

كما أن شعبنا يحترق بنار الغلاء الفاحش الذى يعجز الناس عن الحصول على بعض ضرورات الحياة . وكأن حافظ ابراهيم كان يقصد العهد الحاضر بقوله :

وغدا القوت في يد الناس كاليا = قوت حتى نوى الفقير الصياما

ترى ماذا كان حافظ يقول إذا رأى الصفوف المتزاحمة أمام أكشاك بيع الخبز ؟!

 و شعبنا يحترق بنار المشكلات المتعددة التى تخنقه خنقا من أزمة المساكن والمواصلات والتعليم و... و

و شعبنا يحترق تحت وطأة المفاسد والجرائم التي يرتكبها الكبار من رشوة , ونهب , واستيلاء على الأراضي المملوكة للشعب و للدولة , وإذا قيمت لهؤلاء الكبار فبأرخص الأسعار .

وبعد أن طال بنا المسار , أليس من حقنا أن نسأل هؤلاء الكبار , لقد كنتم سببا في " صهللة " النيران في المجلسين حتى أخذت حقها من التدمير . أليس من حقنا أن نسأل سؤالا عليه مسحة من الأمل الخفيف : هل سيأتي الوقت الذي تطفئون فيه نار شعبنا المحروق . أم سنجدنا نقول لكم بالفم المليان :

 فأريحوا خلائق الأرض منكم         وارحلوا عنا يابنى إبليس ؟