خطبة الحجاج بن يوسف (السيسي)

عندما تولى الحجاج بن يوسف الثقفي العراق، وقف في الناس خطيبًا متوعدًا مهددًا، حتى يذبح لهم القطة، ويُظهر لهم "أنيابه الزرقاء"، ويحذرهم من شق عصا طاعته، والمروق عن سمعه، ليقول: "أنا ابن جلا وطلّاع الثنايا، متى أضع العمامة تعرفوني".

أي أنا الذي يجلو المستغلق الغامض من الأمور، وأنا الذي أصعد الجبال، تأكيدًا على شدة البأس، وحينما أضع على رأسي عمامتي الخضراء الحريرية تعرفونني، أو بتعبير أدق تدركون أني كبيركم وولي أمركم.

ومضى الحجاج الذي يُعد واحدًا من أربعة طغاة يعدون الأشد إجرامًا في التاريخ، يرهب الرعية قائلا: "يا أهل الكوفة إني أرى رؤوسًا قد أينعت، وحان قطافها، وإني لصاحبها، وكأني أنظر الدماء بين العمائم واللحى" حتى بلغ ذروة الفجور إذا قال: "والله لأضربن رؤوسكم بالسياط، ولأوجعنكم ضربًا كما تُضرب غرائب الإبل".

خطبة يخلدها التاريخ، فيها ما فيها من بلاغة وفصاحة اشتهر بهما الطاغية الحجاج، وفيها ما فيها من إمعان في الترهيب، وبث الرعب في النفوس، وكأنما الطاغية يقول "إما أن تصبحوا دواجن في مزرعتي، أو أغنامًا في حظيرتي، أو أن أحز رؤوسكم، وأطوّح رقابكم، وأدك أعناقكم، فالرأي رأيي والقرار قراري، أو كما يُنقل عنه في خطبة لاحقة "سأحكمكم بالنعال يا شعب النعاج".

تلك خطبة تستعاد بالطبع مع كلمات المشير المدني المنتخب الأخيرة، في الحفل الباذخ الذي أقيم بأحد فنادق الخمس نجوم، تحت عنوان هزلي للغاية "إفطار الأسرة المصرية"، حين وقف منفوشًا كذكر أوز يتوعد الإخوان باستنساخ المذابح وتكرار سيناريوهات المجازر، ما لم "يتدجنوا" ويدينوا له بالسمع والطاعة، فهو بحكم الأمر الواقع والقامع، المرشد العام لكل الشعب، وعلينا جميعًا أن نكون بين يديه كالميت بين يدي مغسله.

إن الرجل يعلم حقًا ما بين يديه من سلطة بطش، في دولة ما بعد الثلاثين من يونيو، فالشرطة تثبت يومًا بعد يوم بأنها في خدمة القمع، والمدرعات تحتل الشوارع، والأسلاك الشائكة تحاصر الميادين، والإعلام مصفق مسبح، والقضاء شامخ جدًا وجدًا، والبرلمان معطل إلى أجل غير مسمى، والأحزاب خزعبلاتية، والنخبة نائمة على بطنها، وكل الوطن أضحى معكسرًا، حتى كأن نسائم النيل تسير خطوة معتادة "معتدل مارش".

إنها آليات القهر ووسائل القمع وأدوات التغول والتوحش، وما حدث في "رابعة" التي لا يمكن لذي ضمير إلا أن يراها مذبحة متكاملة الأركان، مرشح لأن يُستعاد، ولا بأس –كما يقول الرجل أيضًا- في أن نسجن أو نقتل عددًا من الأبرياء، أو بالأحرى الأحرار الذين يقولون له في وجهه: "يا غولة عيناك حمراوان"، حتى يعيش الذين يعتمرون البيادة فوق رؤوسهم ويرددون ببغاويًا "بشرة خير".

إن "الباطل لجلج والحق أبلج"، كما كان المعزول يردد في خطابات العجائب والغرائب، وما يُفهم من كلام المشير المدني المنتخب، أن "زمن العبارات العاطفية" على شاكلة "انتوا نور عنينا" وما نحوها من سخافات لزجة، قد ولى، وأن القمع قد تولى، فالرجل نفش "ريشه"، وأعلن نفسه واحدًا قهارًا، كما أن ستائر مسرحه الدموي قد تنفتح في أية لحظة على مشاهد المذابح والقتل الجماعي، والوطن كل الوطن مرشح للسحل تحت المدرعات، وقطع اللسان بـ"السُونكي".

لا فارق من بعيد أو قريب إذن، بين خطبة المشير المدني المنتخب وخطبة الحجاج، ولا تباينات بين قامع يقول: سأحكمكم بالنعال، وبين من يهدد بالمزيد من سفك دماء معارضيه.

إنما هو القمع، وهي دولة القامعين بأمرهم، ممن يدوسون على رقاب العباد ما لم يدينوا لهم بالسمع والطاعة، ويستسيغوا أن تُضرب عليهم الذلة والمسكنة، ويقنعوا بابتلاع فتات الفتات مما يقع من بين أيادي اللصوص الذين مصوا دماءهم وانتزعوا كسرة الخبز من أفواه عيالهم.

للقامع بأمره: إنك قد تقتلنا لكنك أبدًا لن تطفئ جذوة الحرية في أرواحنا، فهي من أمر بارئها، وهدد وتوعد وانتفخ و"انتفش" كما شئت، فإنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولا، واقتفِ الحجاج كيفما يروق لك، وكرر خطاباته وسط بهاليل دولتك وبهلوانات السيرك الذي تنصبه، لكن اعلم بأن "الحجاج" مات ذليلًا مكسورًا، بعدما ذبح الصحابي الجليل سعيد بن جبير، فدعا ربه بينما كان النصل يقترب من نحره "اللهم لا تسلطه على عبد بعدي"، فما كان إلا أن تقيأ دمًا أربعين يومًا، وهو يصرخ "ما لي وسعيد بن جبير"، فاللهم نسأل في هذا الشهر الفضيل ألا تسلط السيسي علينا.