الحروب الطائفية في المنطقة وحدود الدولة القومية

تعيش المنطقة حالة من السيولة ومن تداعيات هذه الحالة ما نشاهده من إرهاصات تلاشي مفهوم الدولة القومية الحديثة بشكلها المتعارف عليه ، وعزز هذه الحالة التحزب الطائفي الذي يجعل الإنسان يعطي ولائه للطائفة على حساب الدولة في الحقوق والواجبات ، ويراعي ذمة الطائفة ويعصف بحقوق المواطنة، حتى صار عاجزاً عن انتقاد طائفته فلا يرى المساوئ الموجودة فيها.

ومن يتابع المشهد العام في المنطقة يجد أننا اليوم تحولنا إلى كتل طائفية صماء كأنها علب كبريت قابلة للاشتعال في أي وقت، حيث أعادت الطائفية الدولة الوطنية الحديثة التي أنشئت في بداية القرن العشرين بمنطقة المشرق العربي إلى التموضع في مواقع الهويات والطائفية ،حتى فشلت الدولة في عكس التعدد الديني والمذهبي.

وإذا تحولت الدولة نفسها إلى مسرح لتنازع العصبيات الدينية والقبلية، بدل أن تكون إطار احتوائها وتجاوزها، فتلك تكون الطامة الكبرى، ويكون عندها من أهم مخاطر الطائفية -السياسية تحديدا- مخاطر تدمير الدولة نفسها وما يتبع ذلك انسحابا على الأمة كلها، والتي تنجم عن تعبئة العصبيات الطبيعية القائمة على القرابة المادية، كالعشيرة والعائلة والإثنية، أو المذهبية، كما تنطبق مع آليات شراء الضمائر والرشوة والفساد، بما يؤدي في النتيجة إلى تزوير الإرادة العامة، والتلاعب بالرأي العام في سبيل تزييف اختياراته، أو حرفها عن خطها الطبيعي المعبر عن مصالح الناس واختياراتهم بحرية، والالتفاف على معايير الخيارات السياسية. ونتيجتها في جميع الحالات تزييف الحياة السياسية الوطنية، وتهديد الدولة ومؤسساتها بالتحول إلى أدوات لخدمة مصالح خاصة، بدل أن تكون تقديم المصلحة العامة على جميع المصالح الأخرى.

ففي العراق مثلا نجد أن المشكلة مرتبطة بمنطق الدولة التي لم تؤمن بتعدد الهويات مما أدى على امتداد القرن الأخير إلى تصفية مكونات دينية بالكامل حتى آلت الامور الى الحشد الشعبي والذى هو في جوهره يشكل حشداً طائفياً شيعياً بامتياز يقوم بعملية تطهير  وإبادة للمكون السني والمسيحي على حد سواء .

خارطة جديدة للشرق الأوسط

ولقد نشرت المجلة العسكرية الأمريكية المتخصصة "أرمد فورسز جورنال" خارطة جديدة للشرق الأوسط، وضعها الجنرال المتقاعد رالف بيترز ، وقسّم فيها المنطقة إلى دول سنية وشيعية وكردية(دولة شيعية تُعرف باسم «شيعستان» تتحالف مع إيران في الجنوب، بكل ما يحتويه من آبار نفط، ودولة سنية في شمال وغرب بغداد. أما العاصمة فيتم تقسيمها إلى بغداد الشيعية الشرقية وبغداد السنية الغربية والآن ترتفع الجدران بين السنة والشيعة في أحياء المدن الكبيرة خاصة بغداد، وهجر أكثر من (200) ألف سني مناطقهم.

وما جرى في العراق بعد 2003 هو محاولة إعادة إنتاج منطق الغلبة للطائفة على الدولة، لذلك لم تستطع الدولة العراقية أن تكون دولة للجميع. و قدَّره مركز استطلاعات الرأي الإنجليزي (ORB) بأن نسبة عدد القتلى العراقيين بأيدي القوات الأميركية من أبريل/نيسان 2003 حتى انسحابها من العراق نهاية 2011م، يمثل40% من القتلى، أما الـ60% المتبقية فهي ضحايا الصراعات الطائفية، والمعارك الداخلية بين العراقيين أنفسهم!

ورغم أن أغلب مراحل التاريخ الإسلامي كانت مراحل تواصل بين المذهبين السني والشيعي. إلا أن اللحظات التي تحول فيها الخلاف إلى صراع كان سببها شرعية السلطة من جهة والذاكرة التاريخية من جهة ثانية ، والخلافات الاعتقادية لم تكن، تاريخيا، السبب وراء التحول من مرحلة الخلاف إلى مرحلة الصراع.

وحالة اليوم التي تعيشها المنطقة طرأت عليها ثلاثة عوامل، أولها أن الصراعات لم تعد موضعية بين السنة والشيعة، وثانيها العامل الخارجي، فيما يتمثل العامل الثالث في طبيعة الدولة القومية المعاصرة العاجزة على احتواء الهويات المتعددة.

ولذلك ما نشاهده من ظهور تنظيم الدولة الإسلامية ما هو إلا ردة فعل همجية على واقع همجي، فالخلاف الديني لا يتحول إلى صراع وحريق إلا إذا لابسه ظلم سياسي.

وما من شك أن إيران اليوم هي المصدر الأساسي للطائفية في المنطقة، ولا أمل في حل الأزمة الشيعية السنية دون صد الصائل الإيراني وإرجاعه إلى حدوده وبالذات في اليمن وسوريا والعراق.

وبنظرة عابرة إلى خريطة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا يمكننا رؤية العديد من الحدود «الوطنية» لدول مثل اليمن وعمان والعراق وسوريا ومصر والسودان وغيرها تخبرنا أن دماء الشعوب هذه الدول سوف تسعى لإعادة الأسوار لعشائرهم وطوائفهم بعد أن عانت من جميع أنواع الاشتباكات العرقية والنزاعات الطائفية مع جيرانهم.

مجريات الأحداث في المنطقة تلخصها نصيحة  «هنري كيسنجر» لصانعي السياسات أن "الفوضى أسوأ من الظلم".  فما نشاهده في «بلاد الشام» والتي تغطي مناطق مصر والعراق وفلسطين المحتلة والأردن ولبنان وسوريا نجد أن الدبابات المدرعة التي تحمل أعلام وتقوم بتفجيرات انتحارية لا نهاية لها تحت اسم «الدولة الإسلامية في العراق والشام» هي دلائل تكهن على تلاشي مفهوم الدولة القومية الحديثة بسبب تغذية وإشعال الحروب الطائفية في المنطقة .

أزمة الصراع الطائفي

ويبدو أن خريطة الشرق الأوسط على وشك أن يتم إعادة رسمها بمزيد من بحور الدماء التي تراق وتسفك في كل من لبنان ( نزاعات طائفية معقدة ) وسوريا (العلويين ضد السنة) إلى العراق (الأكراد ضد السنة مقابل الشيعة)، اليمن (الزيدية الحوثيين ضد السنة)، وفي مصر (الانقلاب العسكري والكنسية ضد جماعة الإخوان المسلمين).

وتتجلى أزمة الصراع الطائفي في المنطقة الآن بين السعودية وإيران وميدانها اليمن ، ويبدو أن الحروب العرقية الطائفية ستعيد تشكيل الشرق الأوسط  وتعيد تشكيل حدود الدولة القومية الحديثة على غرار حل يوغوسلافيا في فترة التسعينيات .

ومن المرجح أن يؤدي الاتفاق النووي مع إيران إلى استمرار النزاعات العسكرية وازدياد التطرف السني الشيعي في الشرق الأوسط وسيضعف حلفاء الولايات المتحدة في المنطقة، خصوصًا  في دول الخليج العربي.

أهداف أكبر من الطائفية

ولا يمكن أن نفهم ما يحصل في منطقتنا العربية والإسلامية إلا إذا ربطناه بالمخطط الاستعماري الكبير الذي طالما حلمت به القوى الاستعمارية الكبرى والتي تقف وراء تغذية وإشعال الفتنة الطائفية في المنطقة والذي يمكن تلخيصه في أربع نقاط :

أولا: نهب ثروات المنطقة وخاصة النفط والغاز.

ثانيا: ضمان بيع الأسلحة والاستثمار في مشاريع إعادة بناء ما دمرته الحروب الأهلية والطائفية.

ثالثا: ضمان أمن الكيان الصهيوني ومنع نشوء أي قوة إقليمية يمكن أن تهدده. رابعا: إبقاء شعوب المنطقة تحت التبعية وحرمانها من عوامل النهوض والتنمية ومنع وضرب أي قوة وطنية قادرة على تنظيم مقاومة حقيقية للاستعمار والتصدي للأنظمة الدكتاتورية العميلة والفاسدة التي تتحكم في مصير الشعوب.

---------------------------------

المصادر :

-         الطائفية فتنة الحاضر والمستقبل ، فارس الخطاب ، الجزيرة نت ، http://goo.gl/h8kZLA

-         الصراعات الطائفية والمذهبية ..رؤية تاريخية ، د. محسن صالح ، الجزيرة نت ، http://goo.gl/Wn1qnF

-         الطائفية وانعكاسات الجغرافيا السياسية ،عبد الحسين شعبان ، الجزيرة نت ، http://goo.gl/D6MHTn

-         طبول الحرب الطائفية تدعونا للانتحار ، فهمي هويدي، الجزيرة نت ، http://goo.gl/4vUrUO

-         الدولة الإسلامية» يوسع الحرب الطائفية لزعزعة استقرار الخليج، ترجمة وتحرير الخليج الجديد، ساسة بوست ، http://goo.gl/BTHrVJ

-         الحرب الطائفية إذا اشتعلت ! عثمان ميرغني ، الشرق الأوسط، http://goo.gl/lUfnai

-         الطريق إلى جهنم الحرب الطائفية الشاملة، د. بشير موسى نافع، القدس العربي، http://goo.gl/dspL7E

-         فوضى ما بعد الاتفاق النووي.. تحولات إقليمية تنذر باتساع دائرة الحرب الطائفية، ريهام سالم ، شؤون خليجية ، http://goo.gl/fr1Jq1

-         النظام الإقليمي العربي والشرق الأوسط الجديد، التجديد العربي، http://goo.gl/CZ01kP

وسوم: العدد 626