معاصَرة سايكس ـ بيكو: إرث كولونيالي يستأنفه استبداد عربي
معاصَرة سايكس ـ بيكو:
إرث كولونيالي يستأنفه استبداد عربي
صبحي حديدي
حين انطلقت الانتفاضة الشعبية السورية، في آذار (مارس) 2011، وشرعت في هزّ أركان نظام استبداد وفساد، عائلي وتوريثي، يعتمد سياسة الحشد الطائفي والمكوّنات الميليشياتية؛ كانت موجات «الربيع العربي» قد انتقلت إلى المشرق، للمرّة الأولى، فاقتضت سلسلة تنويعات، وتبدّلات جوهرية، في الموقف من الحراك الجماهيري العريض، لم تقترن بردود أفعال مماثلة تجاه انتفاضات تونس ومصر وليبيا واليمن والبحرين. توفّرت مواقف «الممانعة»، اللفظية والسياسية أوّلاً؛ ثمّ تطورت هذه إلى اصطفافات عسكرية ومذهبية، عند «حزب الله» اللبناني، و»الحرس الثوري» الإيراني، وغلاة الشيعة من مهووسي العراق خاصة. كما شاعت، من جانب النظام ذاته في البدء، ثمّ في صفوف مناصريه عموماً، حكاية «مؤامرة صهيو ـ أمريكية»، تتولى تنفيذها السعودية وقطر وتركيا، مباشرة او عن طريق وكلاء محليين.
كذلك تصاعدت، ثالثاً، نغمة «سايكس ـ بيكو جديد»، مفادها أنّ إسقاط النظام السوري هو مسعى استعماري معاصر لإعادة ترسيم خرائط تقاسم المشرق العربي، كما وضعها الدبلوماسيان، الفرنسي والبريطاني، سنة 1916 (بمباركة روسية، للتذكير). وفي هذه الأيام، حين صار شبح «داعش» يجوس مساحات شاسعة في سوريا والعراق، ويهدد بالانتقال إلى أكثر من جوار؛ تعالت نغمة معاكسة في الواقع، لا تخلو من مفارقة دراماتيكية: أنّ هذا التنظيم الإسلامي، الإرهابي والمتطرّف ـ وليس أيّ تنظيم «قومي»، أو «علماني»، أو «ممانع» مناهض للإمبريالية… ـ هو الذي شرع في تحطيم خرائط الاستعمار القديم!
عظيم الفائدة، هنا، أن يعود المرء إلى مشاهد سالفة حفظها تاريخ المنطقة، في هذا الملفّ تحديداً، وفي باطن حوليات الاستعمار القديم؛ الذي لا يلوح انه تقادم بمعنى طيّ الصفحة، بقدر إعادة إنتاجها بأيدٍ مشتركة هذه المرّة: قوى «الاستعمار الجديد»، لمَنْ تستهويه التسمية؛ بالتكاتف مع، والاعتماد الكبير على، أنظمة الاستبداد والفساد المحلية.
وخير، في تحقيق مقدار أقصى من مصداقية السرد الاستعمارية، واستخلاص دروس راهنة من تلك المشهديات المنصرمة، أن يعتمد المرء على مذكرات شاهد من أهلها: الضابط البريطاني هارولد دكسون (1881 ـ 1959)، المولود في بيروت لأب كان قنصل بريطانيا في لبنان، والذي تربى في دمشق، ورضع حليب سيدة بدوية من قبائل عنزة؛ وتولى، بعدئذ، سلسلة مهامّ في الهند والبحرين وإيران والخليج العربي، وكتب عدداً من المؤلفات حول العرب والبداوة والنفط، بينها كتابه الأشهر «الكويت وجاراتها»، 1956.
ودكسون، في أحد فصول كتابه ذاك، يروي حكاية مؤتمر العقير، الذي عُقد في أواخر تشرين الثاني (نوفمبر) 1922، على شواطىء الحسا، جنوب البحرين، بدعوة من السير بيرسي زكريا كوكس، المقيم ثمّ المفوّض البريطاني في الخليج.
حضر المؤتمر عبد العزيز بن سعود، ممثلاً لنجد؛ وصبيح نشأت، وزير الأشغال والمواصلات العراقي؛ والوكيل السياسي البريطاني الرائد ج. ك. مور، ممثلاً للكويت. في تلك الحقبة كان ابن سعود يرفض حدود بلاده، كما نصّت عليها الاتفاقية الأنغلو ـ عثمانية لعام 1913؛ وبالتالي كان «الإخوان»، ميليشيات ابن سعود في مصطلحات عصرنا، يواصلون شنّ غاراتهم على الكويت؛ لا سيما بعد أن دحروا العثمانيين وقوّات ابن رشيد، وسقط جبل سحر الذي كان العائق الوحيد أمام تقدّمهم إلى حدود العراق.
تخاصم المندوبان العربيان طويلاً، وبدا واضحاً منذ الساعات الأولى أنّ المباحثات تدور فعلياً بين نجد والعراق: ابن سعود أعلن أنّ حدوده تمتد حتى نهاية نهر الفرات، على أساس تبعية قبيلتَيْ «العمارات» و»الظفير» له؛ ونشأت، من جانبه، جزم بأنّ حكومة العراق لن تقبل بأيّ حدود لا تفصل بلده عن الفرات مسافة مئتي ميل على الأقل. أمين الريحاني، الذي حضر المؤتمر مرافقاً لابن سعود، وروى بعض تفاصيله في كتابه «ملوك العرب»، أوجز تكتيك التفاوض العربي هكذا: «لنفرض أن شيخين من مشايخ العرب اختلفا على الحدود بينهما. الخلاف بسيط يمكن حسمه بوساطة شخص ثالث من البلاد، فإن الإنكليز يتدخلون في الأمر فيعقده مأمورهم أو وكيلهم السياسي فيصبح السلم بين المتخاصمين مستحيلاً. أما الحقّ في ذلك فليس على المأمور الإنكليزي وحده، كلا، العرب أنفسهم يشاركون في الذنب. كلا الشيخين المتخاصمين يقول في نفسه لا بدّ أن يتحزّب المأمور الإنكليزي إما لي أو عليّ، وهذا أكيد. هي عادة الإنكليز في تدخلاتهم كلها، فيضاعف العربي مطالبه عشرة اضعاف ولسان حاله يقول: إذا كان الإنكليز معي فيعطوني حقّي وزيادة، وإذا كانوا عليّ فيعطوني في الأقلّ بعض ما أطلبه ولا بدّ أن يكون فيه شيء من حقّي».
دام الجدل بين المندوبين العربيين (إذْ لزم البريطاني، مندوب الكويت، الصمت المطبق طيلة المفاوضات!) خمسة أيام، دون طائل؛ وفي اليوم السادس نفد صبر كوكس، وأبلغ الرجلين أنهما لن يتوصلا إلى اتفاق حتى بعد عام كامل. ثمّ عقد خلوة مع ابن سعود، يصفها دكسون هكذا (ص 274): «قال السير كوكس إنه ضاق ذرعاً بما أسماه الموقف الطفولي لابن سعود، في فكرته عن الحدود على أساس القبيلة. لم تكن عربية السير بيرسي جيدة، فتوليت الترجمة. ولقد كان من المدهش رؤية سلطان نجد وهو يتعرض لتوبيخ المندوب السامي وكأنه تلميذ مدرسة مشاغب، وأن يتمّ إبلاغه بأنّ السير كوكس سوف يقرر بنفسه نمط الحدود وخطها العام. انتهى المأزق هنا، وأوشك ابن سعود على الانهيار، وتهدج صوته وهو يقول إنّ السير بيرسي هو أبوه وأمّه، وهو الذي ربّاه وصنعه من العدم، وأوصله إلى المركز الذي يحتله، وأنه سيتخلى عن نصف مملكته، لا بل مملكته كلها، إذا أمر السير بيرسي».
بعد ذلك أخرج كوكس خارطة شبه الجزيرة العربية، ورسم بقلم أحمر خطاً امتدّ من الخليج إلى جبل عنيزان قرب حدود الأردن؛ صانعاً بذلك، وللمرّة الأولى في تاريخ المنطقة، خطّ حدود يفصل منطقة نجد عن كلّ من العراق والكويت. كما أعطى ثلثي أرض الكويت لنجد، معللاً ذلك بأنّ سلطة أحمد الجابر بن الصباح في الصحراء كانت أدنى بكثير ممّا خُيّل لصانعي الاتفاقية الأنغلو ـ عثمانية. وإلى جنوب وغرب الكويت رسم كوكس منطقتين، أعلن أنهما ستكونان محايدتين (واحدة للعراق، وأخرى للكويت)، بحيث يكون للطرفين حقّ في النفط المتوقع. وبالطبع، أدرك بن الصباح عقم الاعتراض على الترتيب، فصادق على اتفاقية العقير، وشفع رسالة المصادقة بعبارة رقيقة أيضاً: «من صميم القلب أشكر فخامة المندوب السامي على مساعيه الحميدة»!
ويبقى أنّ مساحة الذاكرة الكولونيالية حافلة بمشاهد مماثلة، تكررت هنا وهناك، مع هذا الباشا أو ذلك السلطان، ومع سردار مرّة، أو شيخ أو قائمقام مرّات؛ وهذه هي الصورة الصادقة لعلاقة الزعيم المحلي التابع، ثمّ خَلَفه الدكتاتور الانقلابي، بالسيّد الكولونيالي؛ القديم، المتجدد، سواء بسواء. وإذا صحّ أنّ حدود سايكس ـ بيكو هي إرث كولونيالي بامتياز، أو هكذا ابتدأ؛ فالصحيح، في المقابل، أنّ أنظمة الفساد والاستبداد العربية هي التي استأنفتها، بل جعلتها معاصرة على نحو أكثر انحطاطاً، وأضافت إليها ترسيمات حدود طائفية ومذهبية أبشع عواقبَ ممّا تخيّل مارك سايكس وفرنسوا بيكو.
هكذا تقول عقيرة «ممانع» منافق يستعيد نغمة اتفاقية 1916، للدفاع عن نظام بشار الأسد؛ وهكذا تقول جرّافة «الخليفة» البغدادي الداعشي، في تنويع محتوى النفاق إياه؛ وما بدّلوا تبديلا!