فدمعت عيناي على زمان ...
ليس هذا تباكياً إنحيازياً واعتباطياً أو تحسراً على زمان بعينه وذماً فحسب لحاضر نعيشه أو يأساً من إستشراف مستقبلٍ مشرق ..فنحن نعلم أنه ليس من زمان يفترض أن يشبه سابقه أو لاحقه..فلكل زمان سماته وقسماته ومستجداته التي تشكل عقليه إنسانه..وأن لكل زمان دولةٌ ورجال وكلُ قديم كان في زمانه حديثاً مثلما كل جديد سيؤول الى قدم !
لكن مشكلتنا نحن أهل السودان لا سيما من عاشوا الزمان الماضي ويشهدون فصول حاضرنا إنما نبكي زماننا لآن ناموس الحياة يفترض فيه التقدم وإندياح عجلة النماء والتطور دفعاً الى الأمام أو على الأقل الحفاظ على قصب السبق الذي أحرزناه في شتى ضروب الحياة ولو فعلنا لما كنا قد تراجعنا الى مؤخرة الدول ولا نقول الشعوب !
وازدراد حلوقنا لمرارة كل ذلك في غمرة تردينا الحاضر هو ما يحفزنا لوقفة التذكر والتأمل في حالنا ومآلنا ، عسى ان يكون في ذلك عبرة للأجيال الحالية والقادمة !
كنت أنتظر مقابلة أحد مسئؤلي محافظة الخرطوم إبان منتصف السبعينيات الأول وتحديداً في العام 1974 وكان المحافظ هو اللواء طبيب الراحل عبد الله احمد قلندر وما أدراك ما هيبة ومكانة المحافظ وقتها..وفجأة دخل رجل بهي الطلعة في جلباب دمور أصلي وشال انيق وعمامة مهندسة بعناية فوق رأسه .. وطلب من موظف الإستعلامات أن يبلغ مكتب المحافظ بأن رجل الأعمال الشيخ ابراهيم طلب جاء بناء على رغبة المحافظ..فتباطأ الموظف وتلكأ وتشاغل عن الشيخ الجليل لمدة تفوق العشر دقائق إذ أنه لم يكن لجهله برموز البلاد يعرف من هو الرجل المهم عليه الرحمة !
فقفل الشيخ متراجعاً نحو الباب وهو يقول للفتى ..أبلغ مكتب المحافظ أنني جئت في موعدي فأنتم من طلبتموني لحاجة لكم وأنا ليس لدى الزمن الذي أضيعه في مراوحة روتين المكاتب الحكومية و تسيب افنديتها ، فإذا كان المحاظ يعوزني في غرض ما ، فمكتبي مفتوح له أو من ينوب عنه .. ثم إنصرف باعتدادٍ لا يلوي على شيء!
بعد تلك الواقعة التي لم تبارح مخيلتي بنحو سنتين تقريباً التحقت بالعمل سكرتيراً خاصاً لرجل الأعمال الراحل السيد جابر عبد الحميد ابوالعز فقد أصطحبني لتلك المهمة أستاذي رحمي محمد سليمان طيب الله ثراهما وقد اصبح مديراً بمجموعة أعمال ابو العز التجارية والصناعية والإنشائية بعد ان ترك صحيفة الأيام عقب خلافه مع نظام مايو
في أحد الأيام إستدعاني السيد جابر وسلمني مجموعة خرائط بناء ضخمة داخل علب أسطوانية ومعها رسالة معنونة للواء خالد حسن عباس وزير الصحة حينها وآمرني بتوصلها للوزير إن كان موجوداً بمكتبه أو الى من ينوب عنه مع الحرص على العودة بما يفيد بالإستلام .. جحظت عيناي و قرأ الرجل استغرابي ودهشتي ، فكيف يتسنى لي أن أقابل الوزير شخصياً وانا الموظف المبتديء ولمّ لا يذهب الرجل بنفسه !
قال لي دون أن أنبس ببنت شفة أو أسأله بما يدور في رأسي ، وقد فهم ما يشغلني ..!
إذهب يا أفندي وستفهم الأمر لاحقاً فانت لا زلت يافعاً صغيراً يابني !
عقب عودتي من إنجاز المهمة ، طرحت ذات السؤال الذي لم أجروء على طرحه لرئيسي المباشر ، على استاذي رحمي الذي أجابني بطريقته الظريفة قائلاً يا أبا الأباريق.. فالسيد جابر رجل نزيه وهو يريد من وزارة الصحة مجرد تصديق لبناء مستشفىً خيري وقفاً لروح والده المرحوم الحاج عبد الحميد ابو العز وسيتكفل بكل نفقاته من الألف الى الياء ولا يريد أن يدخل الأمر في دائرة اضواء الدعايات التي تفسد الأجر وهو لا يحتاج لطوبة من الحكومة أو كيس اسمنت أو حتى قضيب حديد واحد ، فلمّ التزلف لمكاتب الوزراء طالما أن النتيجة في النهاية واحدة !
في زيارتي الأخيرة للوطن مررت قريباً من ذلك الصرح الشامخ الذي يخدم الالافاً من فقراء المرضى..فدمعت عيناي على زمان رجال كان البر ديدنهم ..من غير نفاق لحاكم أوتوسلاً لظالم ..وقفزت الى ذهني صورة الأعمال التي تسمى زيفاً خيرية في هذا العهد وسط تجمعات الإفتتاحات بالتهليل والتكبيروالهيجة الإعلامية ، ومداهنة أصحاب السلطة طمعاً في المردود المضاعف سرقةً وسحتاً وإعفاءاً من الضرائب والجمارك وتراخيص التصدير والإستيراد في كل شيء يقتسموه بينهم والحكام حتى حاويات المخدرات !
وقفزت أمامي صور الكثير من طفيليي هذا الزمن الذين طفوا كالطحالب فوق مياه تجارة التطفيف والأعمال الأسنة و لوثوا السوق بنتانة التعاطي غير الأخلاقي..فجوعوا السواد الأعظم من الناس المستحقين للعيش الكريم و امتلأت كروشهم بالحرام وهم الأقلية غير المستحقة للحياة على تراب هذا الوطن الطهور.. !
أفلا نبكي بعد كل ذلك على زمان رجال أعمالٍ رضعنا من أثداء طهرهم لبانة الكرامة التي دفعتنا بعيداً ولله الحمد وفي الوقت المناسب عن السقوط في مستنقعات التلوث بما يفسد نعمة الحياة النظيفة .. وأعانتنا بزاد الصبر على ما نحن فيه من شقاءٍ بعيداً عن ديارنا ..ولكن إلى حين ..بإذن الله المعين والمستعان .
بقلم ...محمد عبد الله برقاوي..
وسوم: العدد 643