لعبة الحرب
ليس لأنها لعبتنا المفضلة أو المحببة أو لأنها لعبتنا اليتيمة التي ليس لدينا خيار سواها، هي لعبتنا الأخيرة التي نفضي إليها بعد أن نكون قد استنفدنا كافة الألعاب في ذاكرتنا الطفولية الجمعية، حينها نكون وصلنا إلى مرحلة التخمة من اللعب، ونحتاج أن نجدد نشاطنا.
بين مجموعة من الألعاب التي كانت لدى أخي الأوسط "منذر"؛ لعبة مكونة من عدة قطع، مصنعة من الصلصال المُحرق، على هيئة جنود يحملون أسلحة بوضعيات مختلفة ومدافع ودبابات وطائرات وسفن حربية، وكذا مجموعة من الأشجار والجبال؛ لاختباء الجنود، وإخفاء الأسلحة والمعدات العسكرية، وأصابع من الصلصال الطبيعي؛ لتشكيل قطع جديدة من الجنود والأسلحة في حال استمرت وتفاقمت الحرب باللعب أو تشكيل بقايا دمار معدات وجثث جنود مقتولين –إذا ما انتهت الحرب!!.. يحتفظ بها في حافظة بلاستيكية،ولأنه مالك لعبة "الحرب" فهو صاحب الدعوة لي ولأختنا الصغيرة؛ لمشاركته إياها، بعد تقسميه المنصف لغرفة جلوس بيتنا إلى منطقتين عسكريتين، ولا ينسى أن يطلب منا أن ننزل التحف الصغيرة(الزينة) من على رفوف المكتبة؛ لتكثر قطع الحرب، وتظهر كأنها حرب كبيرة، ترقى لأن يُطلق عليها حرباً عالمية– بحسب ما نمتلكه من معلومات بسيطة عن كل الحروب التي سمعنا بها.
يقوم هو بتقسيم ورص القطع من جنود وأسلحة ومعدات حربية بين المعسكرين الافتراضيين، معتمداً على خبرته العسكرية الخيالية المتواضعة، ويصنع جيشين تنظيميين متعادلين، حيث يجعلهما في حالة تأهب تام لخوض حرب حامية الوطيس، ويراعي أن تكون قسمة الأفراد والعتاد بالتساوي في المواجهة على الأرض التي تشهد الاقتتال، ويعين كلينا على رأسي قيادتي المعسكرين، وبعد أن يصرخ بأعلى صوتٍ يسكن حنجرته، فاتحاً فمه وعينيه بأقصى اتساع؛ معلناً اندلاع الحرب، التي تدور رحاها وفقاً لشروطٍ، كان قد خطط لها في الليلة السابقة،مستلقياً على سريره، يناقش الأمر مع نفسه، ويرسمها على الأوراق قبل نومه، يفرضها علينا بتوجيهاتٍ صارمة وحازمة، وما علينا سوى تنفيذها بحذافيرها وعلى أكمل وجه، بنقل وتوزيع القطع إلى جبهة تلاقي الجيشين، وحشدها هناك، ويعتلي إحدى السوفات؛ ليتمكن من مراقبة مجريات الحرب الدائرة، ويتكفل بإصدار أصوات تحريك المعدات الحربية الثقيلة، وإطلاق النيران والصواريخ والانفجارات وغيرها من أصواتٍ صنيعة المواجهة، وبعد مضي دقائق قليلة تنتهي لعبة الحرب بقطع من الجنود والمعدات الحربية ملقاة على الأرض - بما ينم عن القتل والتدمير، وقائدا الجيشين ممدين على الموكيت المفروش على أرضية الغرفة، يأتي صوت أمي الغاضب من المطبخ، ويتصاعد مرة بعد أخرى: "إيش دااا الجناااااااااان؟".
في ذلك الركن من الحافة(الحارة) التي عشت فيها أجمل أيام طفولتي، كان أطفالها من أولاد وبنات يتجمعون ويجلسون على عتبات منازلها المتقابلة، ويبدؤون بتأليف أهازيج تتماشى وتتلاءم جملها مع أسماءهم، وكانت لهم أهازيج ترافق ألعابهم المشتركة، وفي إحدى الألعاب يشكلون دائرة مغلقة، يجلس أحدهم في وسطها، وتنطلق اللعبة بقوله: "دمنا يا دم!!.."؛ ليردوا عليه بصوتٍ واحد: "دددممممم"، ويلزم هنا أن تكون الأصوات عالية، لبث الحماسة، والتأكيد على التركيز، فيسألهم أكثر من مرة عما إذا كان الكائن الذي يذكر اسمه يحمل دماً أم لا؟، وعليهم أن يردوا عليه في كل مرةٍ، كأن يسألهم: "دم الشجرة؟"، "دم السمكة؟"، "دم الحجرة؟"، وهكذا..، وفي حالة أخطأ أحدهم بقول: "دم" لكائن لا يحمل الدم يخرج من الدائرة، وبذلك يخرج من اللعبة نهائياً، وفي لعبة أخرى أهزوجة طفولية، يرددها أطفال الحافة بصوتٍ واحد كلما مشطت طائرة حربية السماء، يغنون لها: "طيارة حربي.. سقطت فوق قلبي.."، كان لهم/ن ما يغنون له ويهزجون به أثناء لعبهم في الحوافي بما يمت بصلة وثيقة لهوامش ما تشهده المواجهات المسلحة والحروب.
عين على السلاح وأخرى على مجموعة أطفال يلعبون بالقرب منه، طفل يجلس مقرفصاً، ويحمل سلاحاً، يترقب من يحسبه عدواً أن يدنو منه، ويباغته بالهجوم، هكذا كان حاله في نقطة تفتيش موالية لجماعة مسلحة في إحدى المدن، كان تارةً يلعب معهم، وأخرى يعود؛ لتفتيش المركبات ومن عليها من العابرين لتلك النقطة، طفل آخر في نقطة أخرى تابعة لذات الجماعة في مدينة أخرى، يجلس حاملاً السلاح في ركن شارع فرعي، وبجواره مجموعة أطفال يلعبون الكرة، كان ذلك في صورة تناقلها ناشطون حقوقيون عبر حساباتهم في مواقع ومنتديات التواصل الاجتماعي، صاحبها الكثير من التنديدات والاستنكارات عن زج الأطفال في المواجهات المسلحة بجبهات القتال. طفلان معلقان دون إرادتهما بين عالمي اللعب والحرب، وجدا نفسيهما بين خياري المشاركة باللعب وعمليات التفتيش بحثاً عن السلاح أو من أُخبروا عنهم بأنهم أعداء، يرتديان بدلتين عسكريتين رسميتين، ويبدو واضحاً أنهما ليستا بمقاسي جسديهما الصغيرين النحيلين، يحاولان تكلفاً الظهور عند مستوى المسئولية الثقيلة، التي رميت على عاتقهما، بينما هما في مواجهة مع المجهول القادم لهما، وأقرب ما يكون لأن يدون اسميهما في قائمة القتلى الطويلة - على أن يحسبا ضمن قافلة الشهداء.
طفل آخر حاملاً سلاحه يرافقني ليلاً وبشكل يومي أثناء عودتي إلى بيتنا من المجمع الصحي الذي تطوعت فيه خلال فترة الحرب، يخبرني بفرح طفل: "تذكر يا أستاذ، علمتني كيف أرسم؟"، ويضيف بفخر رجل: "أرجع لك جزء من جمائلك عليا"، أقول لنفسي:"ليتني لم أتذكر، وليته لم يكبر"!!.. فما/من الذي ذهب به إلى الموت قبل موعده بكثير؟ وتساؤل أكبر: أكان يستحق أن يُقتل؟، يعود بي ذلك إلى خبر مؤسف تلقيته قبل أيام عن مقتل طفل في جبهة القتال، كان يزورني في المكتبة العامة، التي كنت أمينها قبل سنوات في النادي الثقافي الرياضي؛ ليرسم ويقرأ مع بقية الأطفال، أتذكر جيداً لم أصادف بين مجموعة لوحاته التي رسمها ما يدل على حرب أو حمل سلاح على الأقل؛ فجميع لوحاته عبرت عن الحياة والإقبال عليها بعقل وروح طفل.
ليست للحروب أي أخلاق، دمرت المنازل والبنى التحتية والمؤسسات والمرافق الحيوية، وأسقطت الكثير من أرواح المدنيين، ليست كتلك الحروب التي يتفق عليها الأطفال ببراءةٍ، بلعبهم؛ فالحرب بأعينهم وأذهانهم ليست سوى لعبة، أكبر أضرارها إتلاف دمية كبندقٍ مصنوع من خشب وكراتين أو قنبلة من قارورة بلاستيك معبأة بالرمال والحصى، أو طائرة أو قارب من الورق المقوى، أو رسم بطباشير بيضاء على جدران كتب عليها المقاتلون ذكرياتهم أو على مطبات من الإسفلت تشبعت من شرب دمائهم، وفي حالة انتهت الحرب فعلاً؛ سيكتفي الأطفال بالتعلق على ماسورة دبابة مدمرة مهملة في قارعة شارع رئيسي، واعتلاءها وإصدار صوت طلقاتها، وتحريك مدفعها بينما يلعبون بها؛ ليلتقط آبائهم لهم صوراً تذكارية، تسافر بهم إلى أيام الحرب.
وسوم: العدد 656