زيارة لوطني سوريا

مجتزأة من مذكراتي: محطات صغيرة في حياة إنسان عادي 

تجاوزت الحلقة الاولى حتى لا اطيل عليكم ولكن وجه المخابرات الاسود الرهيب  لم يغب عنها.

واليكم موجزا عنها.

أعزائي القراء

ما أن وطأت قدماي مطار حلب بتاريخ ٢ تموز عام ٢٠٠٦ بعد إنقطاع دام ثمان وعشرون عاما بصحبة زوجتي وإبنتي لينا حتى شعرت أني أسلم نفسي للمجهول , حيث بدأت نبضات القلب بالتسارع بطريقة لا شعورية وهي ظاهرة  لا تخص السوريين فحسب كما اخبرني أحد الاصدقاء العرب بل هي حالة انسانية تصيب كل زائر لسوريا الأسد.

حاولنا ان نخفف احتكاكنا برجال مخابرات المطار قدر ما نستطيع بالتقليل من مشترياتنا الملفتة للنظر حيث قررنا استكمال هدايانا من اسواق حلب ،ورغم ذلك لم ينجدنا ذكاءنا من التهرب منهم

فتشوا كل شيء ولما عجزوا عن تحقيق ابتزازهم ,ساومني احدهم على ادويتي مهددا من أنه  سيمنعني من ادخالها إن لم ادس في جيبه مائة دولار . 

كان موقفي صلبا تجاهه بل تقصدت ان يكون صوتي عاليا يصل لكل الزوار ورفضت استفزازه.

بدا يخرج  ادويتي من الحقيبه وبكل استهزاء ينادي : شوفوا شباب الاخ جايب معو صيدليات نيويورك كلها , لم اعره اهتماما . ولكن كان نتيجة هذا الإحتكاك الاول مع النظام زيادة جرعات حبوب تخفيض الضغط.

هنا تذكرت طبيبي الذي أضاف لي  زجاجة  دواء الضغط  اضافية عندما عرف اني ذاهب الى سوريا الاسد.

. قلت لنفسي : إن طبيبي ليس اخصائيا في القلب فحسب ،بل هو ضارب رمل ناجح.

ما ان وصلت البيت حتى أخذت حبتين لتخفيف الضغط ثم  رحت في سبات عميق

 

   إجازة فى وطني سوريا

الحلقة الثانية : آلو.. أنا أبو محمد

أعزائي القراء

تركتكم في آخر الحلقه الأولى وقد أوصلنا سائق التاكسي حوالي منتصف الليل إلى البيت فرميت بنفسي على أقرب كنبه ثم رحتُ في ثبات عميق..إستقيظت في اليوم الثاني عصراً وأنا أكثر تماسكاً فأخذت دوشاً بارداً منحني نشاطاً إضافياً..وبعد يومين بدأت إتصالاتنا مع الأهل والأقرباء والأصدقاء لترتيب زياراتهم لنا ..شعورٌ غريب وأنت تلتقي مع الأهل والأقارب والأصدقاء بعد هذه السنين الطويله ..فالطفل صار شاباً وزوجته تضم طفلاً إلى صدرها.. والشاب شابت ذوائبه والكهل إفتقدناه أو كدنا ..

شرفة البيت متوجهه إلى الغرب والهواء المسائي الجاف يداعب وجهي فأستنشقه عطراً مشبعاً برائحة صنوبر بلادي الساكن هناك على ساحل سوريا الغربي المجاور لبحر الوطن..فنجان قهوة صنعته لي أم لؤي وذهبت إلى غرفة الضيوف لترحب بصديقات جئن للسلام عليها..

الطاوله أمامي نظيفه خاليه الا من مُسجّل صغير ينطلق منه صوت فيروز المشبع بالحنان والذي عشقته طفلاً وشاباً ومازلت..وانا أرنم معها كلماتها لدى كل رشفة قهوة عربية أتذوقها"

طيري ياطياره طيري ياورأ وخيطان بدّي ارجع بنت زغيره على سطح الجيران"

http://youtu.be/5QcGRKe2VkI

..ليس لدي شغف في صحف سوريا . لذلك كانت طاولتي خالية منها فالصحف المؤممه تتكلم لغة واحده ممله تعودتُ عليها منذ نصف قرن تقريباً ولم تتغير..كان الله في عوننا ,المقاله أو الخبر في هذه الصحف يجب ان تمر عبر سلسله من التدقيقات قبل النشر قد تصل في النهايه الى موافقة سيادة وزير الإعلام والذي هو في النهايه يخضع إلى احد رؤساء فروع المخابرات ..فهل أنا بحاجه في إجازتي إلى التمتع بقراءة تقارير مخابراتيه مقتولة الإبداع كل ما فيها : 

أخبار السيد الرئيس ...

نام الرئيس ...

فاق الرئيس...

عاش الرئيس .. 

إستقبل الرئيس؟...

لا ألوم بعض كتّاب هذه الصحف فالصحافه لهؤلاء البعض لقمة عيش وفقط.. كان الله في عونهم..ولولا أن الحكومه تفرض على دوائر الدولة ومؤسسات الحكومه والقطاع الخاص الإشتراك بها لكنتَ وجدتَ الصبيه يجمعون هذه الصحف ويبيعونها بالكيلو إلى أصحاب محلات الفلافل والطعميه ليلفوا بها الصندويش لزبائنهم .

آه... يا...وطن

كل شيئ في سوريا اليوم يقاس بالصمود الزائف حتى صحافة النظام صامده كما ترون بفضل اموال المواطن التي تذهب في طريق دعم وصمود صحافتهم الصفراء

آه... يا...وطن

 كل شيئ فيك يجب ان يكون صامداً بلغتهم من أجل أن يبقى كرسي النظام صامداً وملتصقاً ب( كريزي جلو من نوع خاص) في مؤخرتهم... 

وزفرت زفرة طويله مع رشفة قهوة عربيه ..إنتبهتُ إلى نفسي فقلت لها:مالك ووجع الرأس.. ثم عدت إلى مسجلتي أعيد مافاتني من اغاني صديقتي فيروز.

اعزائي القراء

في اليوم الثالث إستقبلنا الأهل والأقارب

 -أهلاً... أهلاً .. يا ألف مرحبا ..شرّفتوا اهلين وسهلين..أهلاً أبو أحمد والله زغران يا أبو أحمد

- يرد: الفضل لأم احمد (تخجل أم أحمد )

-على عيني إنت وأم أحمد الله يخليلك ياها وتبقوا دايمين لبعض إن شا الله..

 -إنت مصطفى؟

-لا انا سعيد أخو مصطفى.

.- ما شا الله ..مين مصطفى؟

- هادا الشب اللي على يسارك وهي مرتو اللي جنبو

- ما شا الله تركتك يا مصطفى وأنت بتلعب بالحاره ..كيفك خالتي أم محمد ..وانت أخي ابو مازن كبرنا بس الشيب ماهو مقياس المهم شعور الشباب يكون موجود....يا أسعد عمو ساعد خالتك أم لؤي جيب كم كرسي من أودة السفره..تعي حبيبتي لجنبي ..إنت شو إسمك؟

- أنا علياء

- عاشت الأسامي

-عمري خمس سنين ما شا الله

- خالتي: هي بنت إبني الزغير خالد

- الله يخليّون حلوين ديرو بالكون عليهم ( قلت لنفسي :من أجل هذا الجيل يطالب شعبنا بالحريه .من أجل جيل واثق لايرتجف يقول كلمة الحق للكبير والصغير دون خوف ولاجل .من أجل بناء شخصيتهم القويه يطالب هذا الشعب بالحريه والكرامه)

إخوتي وأخواتي..

 بدأ الحديث يدور بين الجميع ..السيدات لهن أحاديثهن الخاصه بهن.والرجال لهم أحاديثهم.. تكلمنا عن البلد.. عن الذكريات.. عن الأحياء..عن الأموات ..تكلمنا في كل شيئ وعن كل شيئ الا السياسه...اليس هذا كان وعداً مني لأم لؤي أن لا أجيب سيرتها؟ .

الجو كان ممتعاً وفناجين الشاي المعطر بالقرفه من صنع أم لؤي تدور علينا..والآيس كريم وحلاوة الجبن من محلات سلوره الأصلي تخفف عنا حرارة شهر تموز ...وفواكه تفوح رائحتها البلديه في الغرفه فتنسيك فاكهة نيويورك الصناعيه.

 وفي غمرة هذا الجو الإحتفالي يقرع جرس التلفون فيرفع أخي سماعة الهاتف

 -: آلو...مين؟

- مرحبا أنا أبو محمد, حضرتك الأستاذ هشام؟

- لأ..لحظه  يهمس في أذني : عبؤول ابو محمد!

 قلت: مين أبو محمد! أش بدو! وكيف عرف تلفوني! كل هذه الأسئله مرت في مخيلتي قبل أن أستلم سماعة الهاتف من أخي

 -: ألو مين

  - مرحبا مهندس هشام أنا أبو محمد من مخابرات أمن الدوله

 - أهلاً بأمن الدوله...أي مساعده؟

- عذراً على الإزعاج

 - : ياسيدي بسيطه.. اي خدمه؟

- سؤال إذا سمحت ممكن تعطيني عنوان ورقم تلفون أخوك المهندس غسان؟ .

هنا كان علي ان آخذ فترة تنفس وحبة متروبولول لتخفيض الضغط ثم أعيد خلال عشْر الثانيه برمجة ذاكرتي لهذا الطلب العجيب الذي ينم عن إستغباء لي وهو الأرجح.

 قلت له: ياسيدي الفاضل انتم مخابرات الدوله ..تعرفون عناوين السوريين فرداً فرداً ويلجأ الشعب إليكم لمساعدته بتزويده بأرقام هواتف لايشملها دليل الهاتف..تقيمون في كل بنايه..تنصبون خيامكم فوق كل منزل في حاراته القديمه والحديثة..تعرفون متى ينام الشعب..ومتى يصحو وماذا طبخ اليوم وماذا سيطبخ غداً ..وأين سيقضي سهرات رمضان...ثم تسأل يا أبو محمد مثل هذا السؤال لشخص وصل وطنه منذ ثلاث أيام فقط.. ترك حلب وعدد سكانها مليونان ونصف ليجدها اليوم اربع ملايين ونصف نسمه!؟

- رد أبو محمد: آسف أستاذ على الإزعاج وأغلق الخط.

الجميع فغر فاهه متعجباً الا ان بعض الزوار حاول إمتصاص الصدمه قائلاً:إن الأمر عادياً هنا فلا تقلق يا أبو لؤي...

لا أقلق!..

لا أقلق!..

لا أقلق! 

اهكذا يعاملون الشعب! أهكذا يوجهون إنذاراتهم لزوار الوطن وأهله ...اهذه هي طريقتهم المقنعه ليفهموننا أن كل شيئ مراقب وتحت جزمتهم ...

آه يا وطن ..

وما زالوا يسمونك وطناً تجاوزاً فلقد حولوك إلى سجن كبير زرعوا فيه كاميراتهم الخفيه حتى في غرف نومنا وحمامتنا...ثم قالوا لنا لاتقلقوا ..فكل ذلك من أجل إسطورة الصمود الزائف والتصدي الكاذب.....

إلتفت إلى زوجتي أم لؤي قائلاً : من فضلك حبة متروبولول تانيه لتخفيض الضغط ...

ودعنا أحباءنا...وذهبت إلى فراشي أغط في نوم عميق

مع تحياتي

إجازة في وطني سوريا

الحلقة الثالثة : المخابرات في كل مكان

أعزائي القراء

تركنا الحلقه الثانيه والسيد أبو محمد رجل المخابرات يفرض نفسه بالهاتف ضيفاً ثقيلاً على سهرتنا..حاولت وزوجتي أم لؤي رمي إستفزاز أبو محمد وراء ظهرينا لنلتفت لإجازتنا...

بدأنا جولتنا في حلب التي توسعت وتزايد عدد سكانها ليصل إلى أربع ملايين ونصف..مركز البلد والمناطق الشرقيه الشعبيه والأثريه لم تتغير كثيراً الإ من ناحية تزايد السيارات في أحيائها الضيقه ..أما المناطق الغربيه والجنوبيه الحديثه فقد توسعت بشكل كبير وهي المناطق التي إمتصت زيادة السكان ,شوارعها واسعه ابنيتها جميله نظراً لتوفر مقالع احجار من نوعيه ممتازه حول مدينة حلب..كما تزايد عدد النوادي العائليه والمطاعم حيث يقضي البعض من أهالي حلب ذوي المداخيل المعقوله سهراتهم في هذه النوادي بينما الأكثريه من أصحاب الدخول المنخفضه يقضون سهراتهم خارج المدينة في المناطق الحديثه , يُحضِرون عشاءهم ونراجيلهم وطاولة النرد فيتعشعون (ويؤرجلون) ويلهون حتى ساعة متأخره من الليل ومنهم من ينام في مكانه . 

أعزائي القراء

بدأنا برنامج رد الزيارات..وفي إحدي الليالي وبعد إنقضاء سهرتنا في بيت أحد الأقارب أوقفنا سيارة تكسي ليوصلنا لبيتنا ألا أنه قبل أن يهم بالإنطلاق فتح الصندوق الخلفي للسياره (الباكاج) تأخر حوالي ثلاث دقائق ثم عاد لتشغيل السياره فرفضت الإستجابه فعاد ثانية لخلف السياره ,هنا بدا القلق يساورنا فلما عاد لتشغيل السياره إستجابت له هذه المره ودارت ...وإنطلقنا.

سألته:

خير إن شا الله أخي الكريم ان شا الله ما في شي .

أجاب : 

ما في شي إبن عمي بس كنت ع بغيّر جرة الغاز

نعم! 

نعم! 

شو علاقة جرة الغاز بسياره تعمل علبنزين؟

أجاب: 

أصل ركّبنا (بالف) للسياره عند ورشة أرتين منشان تشتغل بنزين وغاز.. فيها توفير (٧٠٠٠) ليره في الشهر مبلغ بحرز إبن عمي

قلت: 

يا أخي ما بتخاف على روحك! مابتخاف على روح الزبون تحت حر شهر تموز والله إذا إنفجرت جرة الغاز فإنها لن تترك أحداً حياً في الشارع! وبعدين هادي مخالفه كبيره فيها محكمه عسكريه مو هيك؟.

أجاب:

ياسيدي محسوبك رقيب في المخابرات العسكريه والسياره يملكها عقيد في جهاز امن الدولة ،

ثم أردف قائلاً:

فتاح إبن عمي الخزانه اللي قدامك طالع الرساله وأقراها..

قرأت الرساله وصُدِمت فإذا بها تقول: إلى من يهمه الأمر.. إن ملكية هذه السياره تعود للعقيد فلان من جهاز أمن الدولةً،

الرجاء تسهيل مهمتها , وعند الإقتضاء الرجاء الإتصال على الرقم التالي....وشكراً .

إلتفتَ إلي السيد الرقيب وقال:

كل شي مظبّط إبن عمي شلوني معك؟ 

أجبته ساخرا:

برافو عليك هلق أقنعتني لا هيك شغل لا بلا .

ثم سرحت بيني وبين نفسي 

آه يا وطن..

هل هذه مهمة ضباطنا في دولة الصمود والتصدي..

آه يا وطن...

إذا كان المواطن لا يستطيع أن يضمن على حياته في سيارة هذا الضابط المدعوم بالنظام فهل سنأتمنه على أنفسنا في معركة الصمود ضد اسرائيل  والذي ما فتئ هذا النظام يحدثنا عنها كذباً وزوراً وخداعاً..

ثم تصورت ان جرة الغاز قد إنفجرت وأن(أقنية التلفزيون الأسدية وشركائها في لبنان ) يُذيعوا الخبر على الشكل التالي:

ايها الاخوة المواطنون جاءنا مايلي

" بتاريخ ٨ تموز وعند الساعه الحادية عشر ليلاً إنفجرت في حلب على الطريق الجامعي سيارة تكسي كان يستقلها إرهابي سلفي وصل من امريكا لتنفيذ عمليات ارهابية وهو على إتصال مع القاعده..وقد تبين من التحقيق ان الإرهابي كان يحمل معه مواد شديدة الإنفجار موضوعه في حقيبه أدى إنفجارها إلى مقتل الإرهابي والسائق وأعداداً كثيره من الماره بينهم أطفال وسنوافيكم لاحقاً بما يستجد من معلومات.

اعزائي القراء هذا ليس تخيل وإنما برنامج مخابراتي مبرمج وقد يتعرض له كل شرفاء الوطن.

وصلت البيت مع العائلة وأسرعنا فدخلنا البيت وأغلقنا بابنا قبل ان تنفجر جرة الغاز ويتحول الخيال الى حقيقة .

قلت لام لوءي:

يرضى عليكي ام لوءي ناوليني حباية تنزيل الضغط .

ثم رحت في نوم عميق .

وسوم: العدد 658