هكذا دمّر صندوق النقد الدولي هاييتي وكولومبيا .. وهو ما سيفعله بالعراق (89)

(التحول من النظام الزراعي الموجّه نحو الاستهلاك المحلي إلى نظام آخر موجه نحو التصدير سرعان ما أدى إلى انخفاض في إنتاج الغذاء الكافي للسكان. وقد تفاقم انخفاض الإنتاج المحلي في عام 1986، عندما طالب صندوق النقد الدولي من حكومة هاييتي أن تقوم بخفض الرسوم الجمركية على الأرز وتلغي الدعم الذي يُقدّم إلى مزارعي الأرز. فورا ، بدأ الرز يأتي من الولايات المتحدة بسخاء وبسعر أقل. لماذا ؟ لأنه مدعوم من قبل الحكومة الأمريكية !!. غمر الرز الأمريكي المدعوم البلاد، وأدى إلى خفض الأسعار ودفع المزارعين الهايتيين إلى حافة الإفلاس. وبحلول عام 1988، كان الآلاف من مزارعي الأرز قد توقفواعن العمل في أراضيهم ، ,اضيفوا إلى طوابير البطالة).

(عامان من "النفخ" المالي من صندوق النقد الدولي خرّبت كولومبيا بنفس الطريقة التي خرّبت بقية الدول. تجربة هذه الدولة الواقعة في أمريكا الجنوبية مع سياسات صندوق النقد الدولي توضح كيف يلبي الصندوق مصالح المستثمرين الدوليين والنخبة الثرية الكولومبية، في حين يدمّر رفاهية وأمن الناس الكولومبيين العاديين في هذه العملية. الأكثر إضرارا بالمواطن الكولومبي هي التخفيضات الحادة في الاستثمار العام في الرعاية الاجتماعية والخدمات الصحية الأساسية والتعليم والضمان الاجتماعي. إنها ممارسة مؤلمة وصفها واحد من أعضاء الكونغرس الكولومبي بأنها تشبه "إجراء عملية جراحية معقدة لمريض من دون استخدام التخدير").

(تمهـــــــــــيد - هايتي: جعلها صندوق النقد الدولي أفقر دولة في العالم - صندوق النقد يدمّر القطاع الزراعي (مذبحة الخنازير) - بلد ينتج الرز حوّله الصندوق إلى مستورد للرز الأمريكي - تخفيض أجور العمال لزيادة أرباح الشركات الأجنبية - صندوق النقد يدمّر القطاع الصناعي - كولومبيا المريضة أجرى لها صندوق النقد الدولي العمليات بدون تخدير - التسعينات من التفاؤل إلى الهجرة - الكولومبية النيوليبرالية:  المستقبل ليس للشعب الكولومبي - "خطة كولومبيا" وصندوق النقد الدولي والشيطان الأمريكي - تسريح 000،100 موظف، وتسرب مليون طالب، وفقدان 000،500،2 مواطن للرعاية الصحية - صندوق النقد رسّخ الديكتاتورية وأضعف الديمقراطية)

تمهـــــــــــيد

في كل مكان يمد التوأمان الشيطانان : صندوق النقد الدولي والبنك الدولي أيديهما إليه يحل الخراب والموت والدمار . فعبر سياساتهما في برامج الإصلاح الهيكلي وتحرير التجارة والخصخصة يتم بيع القطاع العام (الكهرباء والماء والاتصالات والنفط والغاز .. إلخ) وتقليص حجم الحكومة (تسريح الموظفين والعمال الحكوميين) وقطع إعانات الحكومة عن القطاعات الصحية والتعليمية والرعاية الاجتماعية وغيرها .. يسبّبان تدمير القطاع الزراعي والصناعي وتصاعد مستويات البطالة (تتبعها الهجرة والجريمة ...) وتدهور الصحة وانتشار الأمراض وتفاقم الجهل والأمّية .. وغيرها من الكوارث المخيفة .

100 دولة دخل إليها هذان الشيطانان : صندوق النقد الدولي والبنك الدولي فخرّبا كل جوانب الحياة فيها .. عرضنا نماذج من هذا الخراب المبرمج والمنهجي الذي تقوده الولايات المتحدة والدول الغربية من خلال بنوكها وشركاتها المتعددة الجنسيات .. ونعرض في هذه الحلقة الكيفية التي دمّر بها صندوق النقد الدولي الحياة في دولتين : هاييتي وكولومبيا .. حدّ إخراجهما من الحياة والتاريخ .  

(1). هايتي: جعلها صندوق النقد الدولي أفقر دولة في العالم

________________________________

على مدى العقدين الماضيين، هاييتي ، هذه الدولة الكاريبية ، اتبعت بإخلاص وصفات صندوق النقد الدولي والبنك الدولي. ولكن حتى الآن ما تزال هاييتي أفقر دولة في نصف الكرة الغربي. ما يقرب من 70 في المئة من سكان هايتي عاطلون عن العمل.

أربعة فقط من أصل عشرة هايتيين يتمتعون بإمكانية الحصول على المياه النظيفة الصالحة للشرب، وتعاني البلاد من واحدة من أسوأ معدلات العمر المتوقعة في العالم؛ يمكن للرجال في هايتي أن يتوقعوا أن يعيشوا 47 عاما، والنساء في هايتي يعشن 51 عاما فقط. لا يعرف معظم الهايتيين القراءة ولا الكتابة. خمسون في المئة من الأطفال الهايتيين الذين تقل أعمارهم عن 5 أعوام يعانون من سوء التغذية. نصيب الفرد الهاييتي من الدخل هو 1 دولار في اليوم. فهل يستطيع خبراء صندوق النقد والبنك الدولي السفلة العيش هم وعائلاتهم بدولار واحد في اليوم ؟؟؟

ولايات سياسة صندوق النقد الدولي على حكومات هايتي المتعاقبة - عسكرية كانت أم مدنية - ركزت على هدف واحد: زيادة الصادرات. صادرات هايتي، في الواقع، زادت بشكل كبير تحت وصاية صندوق النقد الدولي. ولكن هذا "النجاح" كان ثمنه باهظا. ففي محاولة لجذب الاستثمارات الأجنبية إلى هايتي بأي ثمن، أجبر صندوق النقد الدولي هايتي على الحفاظ على أجور للعمال في أدنى مستويات الفقر. في حين أن هذا كان نعمة للشركات متعددة الجنسيات، فإنه كان نقمة على مواطني هايتي العاديين.

حتى الوظائف في مصانع الملابس المرغوبة في هايتي صارت بالكاد توفر المال بشكل يساعد الناس على البقاء على قيد الحياة. وفي الوقت نفسه، دمّر إصرار صندوق النقد الدولي والبنك الدولي على قطع المساعدة عن صغار المزارعين ، القطاع الزراعي في البلاد، مما جعل الهايتيين يعتمدون على استيراد المواد الغذائية بعد أن كانوا مكتفين منها. إرث صندوق النقد الدولي والبنك الدولي في هايتي هو إلى حد كبير هو بلد أجور العمل فيه أقل من أي مكان في العالم ، وينعدم فيه الأمن الغذائي بصورة كبيرة جدا.

صندوق النقد يدمّر القطاع الزراعي (مذبحة الخنازير)

______________________________

مشاركة الوكالات الدولية في هايتي بدأت بكارثة كبرى تحدث عنها حتى المؤرّخ المعروف "نعوم تشومسكي" في كتبه المختلفة . في عام 1982، بدأ برنامج لاستبدال خنازير الكريول التي تعتمد عليها نحو 85 في المائة من الأسر الريفية الهاييتية بسلالات خنازير من أمريكا الشمالية.

خنازير الكريول كانت تُستخدم لتكون بمثابة نوع من حساب التوفير لكثير من المزارعين في هايتي، حيث تقوم العائلات ببيع خنازيرها في مناسبات خاصة مثل حفلات الزفاف الخاصة، والجنازات وحالات الطوارئ.

لكن "خبراء" الزراعة الأجانب التابعين لصندوق النقد الدولي قرّروا أن الخنازير كانت مصابة بأمراض مزمنة، وخوفا من أن مرض الخنازير هذا سوف ينتشر إلى الشمال نحو خنازير الولايات المتحدة (أليست هذه نكتة .. بل هي مؤامرة من مصاصي دماء لا يرحمون !)، فتم قتل كل الخنازير في هاييتي في فترة 13 شهرا.

كانت الخنازير الجديدة المستوردة من ولاية ايوا الأمريكية بديلا ضعيفا جدا. فهي لا تستطيع تحمّل البيئة الاستوائية في هاييتي وتحتاج لـ "تكييف هوائي" خاص. وإذا لم تحصل هذه الخنازير على مياه نظيفة للشرب – وهي المياه التي لا يحصل عليها معظم الشعب الهاييتي – فإنها ستصبح مريضة.

فوق ذلك كانت هذه الخنازير بحاجة إلى أعلاف مستوردة، من النوع الذي لا يستطيع المزارعون الهاييتيون العاديون توفيره أو تحمل كلفته. فشل مشروع  استبدال خنازير هاييتي فشلا ذريعا. ووفقا لأحد المراقبين، فقد الفلاحون في هايتي ما يقرب من 600 مليون دولار من رأس مالهم، وانخفض استهلاك البروتين في ريف هايتي بشكل كبير مما أدى إلى الإصابة بسوء التغذية.

كان برنامج استبدال الخنازير في هاييتي مجرد جزء واحد فقط من خطة أكبر لصندوق النقد الدولي و البنك الدولي لـ "اصلاح" النظام الزراعي في هايتي. في محاولة لتحويل الزراعة في هايتي من التركيز على الاستهلاك المحلي إلى التركيز على التصدير للخارج، شجع البنك الهايتيين على زراعة الكاكاو والقهوة. كان من المفترض أن زراعة المحاصيل النقدية للتصدير هذه ، ومن ثم استخدام أرباحها لشراء المواد الغذائية من قبل المزارعين. لكن أسعار البن والكاكاو تتقلب بعنف في الأسواق العالمية عادة حسب مضاربات الشركات متعددة الجنسيات الأمريكية خصوصاً. ونتيجة لانخفاض أسعار السلع الأساسية في جميع أنحاء العالم، وجد المزارعون في هايتي أنفسهم غير قادرين على كسب لقمة العيش.

بلد ينتج الرز حوّله الصندوق إلى مستورد للرز الأمريكي

_________________________________

التحول من النظام الزراعي الموجه نحو الاستهلاك المحلي إلى نظام آخر موجه نحو التصدير سرعان ما أدى إلى انخفاض في إنتاج الغذاء الكافي للسكان. وقد تفاقم انخفاض الإنتاج المحلي في عام 1986، عندما طالب صندوق النقد الدولي من حكومة هاييتي أن تقوم بخفض الرسوم الجمركية على الأرز وتلغي الدعم الذي يُقدّم إلى مزارعي الأرز (هل هناك قتلة مثل هؤلاء ؟! لقمة سكان هاييتي هي الرز وها هم يضعون الخطط الإقتصادية "الإصلاحية" لتدميرها !! اللعنة على أمريكا والغرب) . فورا ، بدأ الرز يأتي من الولايات المتحدة بسخاء وبسعر أقل. لماذا ؟ لأنه مدعوم من قبل الحكومة الأمريكية !! انظر لإجرامهم : يلغون دعم حكومة هاييتي لزراعة الرز في هاييتي  ويوافقون على دعم الحكومة الأمريكية لزراعة الرز في الولايات المتحدة!!) . غمر الرز الأمريكي المدعوم البلاد، وأدى إلى خفض الأسعار ودفع المزارعين الهايتيين إلى حافة الإفلاس. وبحلول عام 1988، كان الآلاف من مزارعي الأرز قد توقفواعن العمل في أراضيهم ، ,اضيفوا إلى طوابير البطالة.

تجربة مزارعي الأرز الهايتيين تكشف النفاق الصارخ في تعليمات صندوق النقد الدولي وخططه التي تصل حدّ التآمر. في حين، كانت حكومة هاييتي مخنوقة بالقروض وفوائدها العالية وشعبها منهك بالفقر والعوز – قام صندوق النقد بإجبار حكومة هاييتي على إنهاء دعمها لمزارعي الأرز وخفض رسومها الجمركية أمام الأرز الأمريكي المستورد ، في حين لم تجبر الولايات المتحدة على اتخاذ نفس الخطوات. ونتيجة لذلك، اكتسح الأرز المستورد من الولايات المتحدة سوق هايتي. واليوم، صار الهايتيون في موقف لا يحسدون عليه في كونهم يعتمدون على الصادرات الأجنبية في غذائهم الأساسي الذي كانوا ينتجونه بأنفسهم.

شركة أميركية واحدة، هي Early Rice ، تبيع ما يقرب من 50 في المئة من الأرز للهاييتيين. وكما قال احد المزارعين في هايتي: "إن إدخال الأرز الأمريكي قد دمّر أوضاعنا بشكل رهيب. ولكن لو لم يتوفر هذا الأرز الأمريكي، لمات الهايتيون من الجوع ".

تخفيض الأجور لزيادة أرباح الشركات الأجنبية

__________________________

مع اعتراف الصندوق بأن سياساته قد تؤدي إلى اضطرابات اجتماعية على المدى القصير، فإنه قال أيضا أن سياساته سيستفيد منها الناس العاديون على المدى الطويل. البلدان الفقيرة، كما يقول صندوق النقد الدولي، تحتاج إلى الكفاح والسعي للخصصة في عدد قليل من الصناعات الرئيسية الموجهة للتصدير من جانب وتعظيم المزايا النسبية التي تتمتع بها. والميزة الرئيسية في هايتي، كما يقول صندوق النقد الدولي، هي في مجال العمل، والصندوق قد فعل كل ما في وسعه للحفاظ على هذا العمل رخيصا.

في الثمانينات ، شهدت هاييتي انخفاضا حاداً في أجور الهايتيين. وبحلول عام 1989 كان أجر العامل الكامل في بورت أو برنس يوفّر أقل من 60 في المئة من حاجات العائلة الهايتيية الأساسية من  الغذاء والمأوى والملبس، وما إلى ذلك. في التسعينات أصر صندوق النقد الدولي على الحفاظ على الأجور منخفضة بحجة جعل هايتي قادرة على المنافسة وجذب الاستثمارات الأجنبية الى البلاد.

في عامي 1991 و 1994، اشترط صندوق النقد الدولي تقديم قرض لهاييتي بضبط الأحور وخفضها. ثم، في عام 1996، قدم صندوق النقد الدولي مساعدة تقنية لحكومة هايتي لمراجعة قانون العمل الهاييتي !!. قانون العمل في هاييتي كان يفرض إجراء زيادة في الحد الأدنى للأجور حينما يزداد التضخم بنسبة 10% ، ولكن صندوق النقد الدولي فرض تغيير هذه المادة، ورفض زيادة الأجور حتى لو زاد التضخم في البلاد عن 30%. كما فرض صندوق النقد الدولي على حكومة هاييتي تجميد الأجور الحكومية لمدة ثلاث سنوات. وإذا كانت الحكومة تريد رفع مرتبات موظفي الخدمة المدنية، فإنه سيتعين عليها التعويض عن تلك الزيادات بتسريح أعداد من الموظفين. هذه الخطوة أججت عدم الاستقرار المتأجج أصلا في سوق العمل .

صندوق النقد يدمّر القطاع الصناعي

_____________________

وفي الوقت الذي كان صندوق النقد الدولي يطلب التضحيات من العمال الهايتيين، كان يضغط على حكومة البلاد لمنح مكافآت للمستثمرين الأجانب. فبناء على طلب من الصندوق والبنك الدولي، خفضت حكومة هايتي رسوم الهاتف والكهرباء والجمارك للشركات الأجنبية. هذه الحوافز الجديدة للشركات، جنبا إلى جنب مع أسوأ هبوط للأجور، استقطبت الآلاف من الشركات المصنعة لهايتي. ولكن، لسوء حظ الهايتيين العاديين، فإن المستثمرين الأجانب لم يسهموا سوى بالقليل جدا في تحقيق الاستقرار الاقتصادي في البلاد. ويرجع ذلك إلى حقيقة أن السلع كنت تأتي من الولايات المتحدة ليتم تجميعها ثم يتم شحنها من جديد. وعدد قليل جدا، إن وجد،  من البضائع الهايتية كان يُستخدم في هذه العملية. وبالإضافة إلى ذلك، كان يتم ترحيل الكثير من الأرباح المُعفاة من الضرائب والناتجة من قطاع التجميع من قبل المستثمرين إلى الولايات المتحدة، ولا يتم استثمارها في هايتي.

في الوقت الذي كان صندوق النقد الدولي والبنك الدولي يطالب فيه أن توفّر حكومة هايتي مزايا سخية للشركات متعددة الجنسيات، كان يجبر الحكومة الهايتية على خفض ميزانيتها. في عام 1997 طلب صندوق النقد الدولي من الحكومة الهايتية خفض إنفاقها بنسبة 50 في المئة، على الرغم من أن هايتي فعلياً صارت تمتلك ثُمْن (1/8) عدد الموظفين (بسبب التسريح الذي فرضه الصندوق) ) من موظفي القطاع العام الذي يقابل جارتها المساوية لها في عدد السكان وهي جمهورية الدومينيكان. التخفيضات في الإنفاق العام التي فرضها الصندوق جعل من الصعب جدا بالنسبة للحكومة توفير الخدمات الأساسية. وفي الواقع، لقد صرفت هايتي خلال التسعينات المزيد من المال لدفع فوائد ديونها أكثر مما صرفته على الصحة أو التعليم.

كانت برامج صندوق النقد الدولي والبنك الدولي في هايتي نعمة للشركات متعددة الجنسيات. حصدت الأعمال التجارية الزراعية في الولايات المتحدة مكاسب هائلة جديدة من هايتي جراء تخفيض الرسوم الجمركية على السلع الزراعية المستوردة وإلغاء إعانات الحكومة لمزارعيها. استغلت صناعة الملابس فرصة تدني الأجور وحوافز التصنيع لاستغلال القوى العاملة اليائسة في هايتي.

شعب هايتي، الآن، يصارع من أجل البقاء على قيد الحياة.

(لمعلومات أوسع راجع حلقتنا : لا تثقوا بالولايات المتحدة : (8) تدمير هاييتي وإخراجها من الحياة)

 

(2). كولومبيا المريضة أجرى لها صندوق النقد الدولي العمليات بدون تخدير

_________________________________________

علاقة كولومبيا مع صندوق النقد الدولي مماثلة للعلاقة بين مريض فقير مُتعّب، وطبيب مُكلِف. المريض، في حاجة ماسة للمساعدة، يذهب إلى الطبيب لتلقي العلاج. الطبيب في المقابل يصف للمريض أدوية مكلفة للغاية، ومثيرة للجدل. يوافق المريض، مع علمه بأنه لا يستطيع تحمل تلك الكلفة، ولكن، وبسبب الشعور باليأس، يوافق على العلاج. في نهاية المطاف، تحصل لدى المريض آثار جانبية رهيبة بسبب العلاج، ويكتشف أيضا أن مشكلته الأصلية قد تفاقمت. المريض صار أكثر فقرا، ومرضا ، وأكثر يأسا، ويحتاج الى مزيد من "العلاج" أكثر من أي وقت مضى.

عامان من "النفخ" المالي من صندوق النقد الدولي خرّبت كولومبيا بنفس الطريقة السابقة (راجع الحلقات السابقة). تجربة هذه الدولة الواقعة في أمريكا الجنوبية مع سياسات صندوق النقد الدولي توضح كيف يلبي الصندوق مصالح المستثمرين الدوليين والنخبة الثرية الكولومبية، في حين يدمّر رفاهية وأمن الناس الكولومبيين العاديين في هذه العملية.

تجاهل الاحتجاجات الضخمة ضد "الإصلاحات" التي فرضها صندوق النقد الدولي والتي – أي "الإصلاحات" – أوقفت سياسات مؤسسات الإقراض وقطعت الرعاية الصحية والتعليم والخدمات الاجتماعية الأخرى لملايين الكولومبيين وتسبّبت في تسريح عشرات الآلاف من العمال والموظفين في هذه العملية.

علاقة صندوق النقد الدولي مع كولومبيا عمّقت الفقر وعدم المساواة هناك، في الوقت الذي تدّعي أنها تفعل العكس، وكل ذلك باسم التجارة "الحرة"، وتحرير السوق والاستقرار المالي.

على قدم المساواة مع الإضرار بالمجتمع الكولومبي هي الطريقة التي فرضت بها الحكومة الاستراتيجية الاقتصادية التي فرضها صندوق النقد الدولي. وبتميزها بالممارسات غير الديمقراطية والاستبدادية، أسكتت الحكومة أصوات القاعدة الشعبية المعارضة، فقوّضت الشرعية الديمقراطية الكولومبية.

التسعينات من التفاؤل إلى الهجرة

___________________

كانت كولومبيا في بداية التسعينات أرضاً للتفاؤل والأمل المتجدد. الثمانينات في امريكا اللاتينية اعتبرها الكثيرون "عقد ضائع" بسبب الويلات الاقتصادية التي أصابت القارة. لكن بالنسبة لكولومبيا كان الأمر مختلفا نسبيا حيث كان اقتصادها واحدا من أكثر الاقتصادات المستقرة والقوية في نصف الكرة الغربي. .تمت كتابة دستور جديد للبلاد شمل أكثر قطاعات المجتمع الكولومبي أكثر من أي وقت مضى. قرّرت بعض جماعات حرب العصابات في البلاد، والتي انهكتها الحرب، إلقاء السلاح والدخول في العملية السياسية، وتشكيل أحزاب سياسية. السلام الاجتماعي الذي ظل ، لفترة طويلة حلما مجردا، صار ملموسا.

آخذين بالإعتبار هذا الواقع الجديد، ربما لم يكن أكثر المتشائمين يأساً قادراً على أن يتصور نهاية للكابوس الذي عاشه الكولومبيون خلال العقد الماضي. لقد تراجع الاقتصاد إلى أسوأ ركود له منذ 100 سنة، وارتفعت نسبة البطالة الرسمية إلى 20 في المئة. أودت الحرب الأهلية الدامية في البلاد بأرواح أكثر من 000،100 شخص. ونتيجة لذلك، بدأ الكولومبيون يفقدون الأمل الذي تعزز خلال بداية التسعينات. لكن بين عامي 1996 و 2000، استشعر 000،072،1 من الكولومبيين، عن بعد، أن الأسوأ سوف يأتي قريبا، ففرّوا وتركوا وطنهم وراءهم.

الكولومبية النيوليبرالية:  المستقبل ليس للشعب الكولومبي؟

__________________________________

ليس من قبيل الصدفة، أنه في أواخر الثمانينات وبداية التسعينات بدأت كولومبيا التجربة مع السياسات الاقتصادية النيوليبرالية. بدءا من الرئيس باركوس (1986-1990)، واستمرارا خلال إدارات الرؤساء غافيريا (1990-1994)، وسامبر (1994-1998) وباسترانا (1988 إلى الوقت الحاضر)، فرضت النخبة الكولومبية بصدق النموذج الاقتصادي الليبرالي الجديد.

جافيريا، الذي اتهمه الكولومبيين في استطلاع أجري مؤخرا بمسؤوليته عن الركود الاقتصادي ، أعلن بفخر لأبناء وطنه في عام 1991: "مرحبا بكم في المستقبل"، في اشارة الى الدستور الجديد والانفتاح الاقتصادي النيوليبرالي. بعد مرور عشر سنوات، وذلك خلال منتدى للتنمية عُقد مؤخرا، نفس الرجل الذي تباهى متفائلا بفخر بالمستقبل من قبل أجاب على أسئلة بخصوص الانكماش الاقتصادي الذي تعاني منه كولومبيا قائلا:

"لا بد لي من الاعتراف بأن تطور البلاد بعد حكومتي قد تركني في حيرة، مثل كثير من الكولومبيين الآخرين".

ومع ذلك، وبينما يحك جافيريا رأسه في محاولة لمعرفة سبب ما حدث، فإن معظم الكولومبيين، أولئك الذين لا يستطيعون تقديم نفس ترف التنظير الاقتصادي- هم عاطلون عن العمل وجائعون.

الجدل الدائر حول ماذا ومن هو المسؤول عن الانكماش الاقتصادي في كولومبيا يطرح أسبابا مختلفة. البعض يلقي اللوم على دستور عام 1991، الذي اتضح أن القوانين الجديدة في ظله تكون مكلفة وصعبة التطبيق. يقول البعض الآخر أن الليبرالية الجديدة والانفتاح الاقتصاد الكولومبي غير المنضبط أمام الاستثمار الأجنبي هو مصدرالخطأ الأكبر. آخرون يرون أن السبب يكمن في تخفيض قيمة البيزو الكولومبي، وسوء إدارة الإنفاق العام للدولة، وغيرها.

وأيا كانت الأسباب، فقد تراجع الاقتصاد الكولومبي وأصبح في حالة يرثى لها. والنخبة الكولومبية، التي تحتاج إلى إنقاذ، ذهبت تطرق على باب صندوق النقد الدولي، وقبعتها في يدها تستجدي مساعدته.

"خطة كولومبيا" وصندوق النقد الدولي والشيطان الأمريكي

_________________________________

بعد فضيحة الرئيس سامبر ، انتخب أندريس باسترانا أرانغو في عام 1998 مع ميثاق سلام. واعترافا بالوضع الاجتماعي والاقتصادي والسياسي البائس والمتردي على نحو متزايد في البلاد، وضعت إدارة باسترانا ما سُمّي بـ "خطة كولومبيا Plan Colombia". الحكومات الكولومبية والولايات المتحدة وصفت – ظاهريا- خطة كولومبيا باعتبارها استراتيجية متكاملة بقيمة 7.5 مليار دولار لمواجهة التحديات الأكثر إلحاحا التي تواجه كولومبيا اليوم : تعزيز عملية السلام، ومكافحة صناعة المخدرات، إنعاش الاقتصاد الكولومبي، وتعزيز الركائز الديمقراطية للمجتمع الكولومبي. (لمزيد من المعلومات راجع الحلقة (17) كولومبيا : أكثر دولة تسحق حقوق الإنسان وأكثر دولة في العالم تحصل على المساعدات الأميركية، والحلقة (18) حرب الولايات المتحدة على المخدّرات وسيلة لنشرها ولتدمير الشعوب).

هنا جاء دور الشيطان الأمريكي ، حيث أعلنت حكومة الولايات المتحدة زورا دعمها لخطة كولومبيا كجزء من "الحرب على المخدرات". حكومة الولايات المتحدة ألقت بثقلها وراء خطة بمليارات الدولارات من المساعدات كان معظمها مساعدات عسكرية. كذبت الحكومة الأمريكية على المواطنين الأمريكيين في هذه العملية. ميّزت الولايات المتحدة بشكل قاطع المعونة على أساس أنها لمكافحة المخدرات، بدلا من مكافحة التمرد، وهو لعب لفظي دلالي يعرف الكولومبيين أنه غير صحيح.

على الرغم من أن لا علاقة مباشرة لصندوق النقد الدولي بخطة كولومبيا، إلا أنه قام بإقراض كولومبيا قروضا أدخلها في خطة كولومبيا كجزء من استراتيجية أكبر لإنعاش الاقتصاد الكولومبي !!.

في عام 1999، ناشدت كولومبيا صندوق النقد الدولي للحصول على قرض لأول مرة في تاريخها. ألزم الصندوق كولومبيا بائتمان لمدة ثلاث سنوات بقيمة 2.7 ملياردولار، وولاية تقوم على جدول أعماله في الإصلاح الهيكلي من سياسات مالية تقشفية تتضمن تدابير لتبسيط نظام تقاسم العائدات، وإصلاح أنظمة التقاعد العامة، وتقليص حجم القطاع العام.

بسبب الفشل في تنفيذها البديل الاقتصادي الذي يحمي الكولومبيين العاديين، قامت الدولة الكولومبية بشد حزامها المالي من خلال خفض الانفاق العام، وهو التحرك الذي ضرب الشرائح الفقيرة من المجتمع بصورة قاسية. وعلى حد تعبير خبير اقتصادي كولومبي:"ما هو البديل؟ زيادة الضرائب على النخبة الثرية الخاصة بكم؟ إفعل ذلك إذا كنت تستطيع ".

الأكثر إضرارا بالمواطن الكولومبي هي التخفيضات الحادة في الاستثمار العام في الرعاية الاجتماعية والخدمات الصحية الأساسية والتعليم والضمان الاجتماعي. إنها ممارسة مؤلمة وصفها واحد من أعضاء الكونغرس الكولومبي بأنها تشبه "إجراء عملية جراحية معقدة لمريض من دون استخدام التخدير".

تسريح 000،100 موظف، وتسرب مليون طالب، وفقدان 000،500،2 مواطن للرعاية الصحية

_______________________________________

لتنفيذ مطالب صندوق النقد الدولي، احتاجت الحكومة الكولومبية لتمرير تشريعات خاصة، بما في ذلك تعديل الدستور.

كثير من الكولومبيين، شعروا بأن الصندوق ليس حريصا على فكرة طرح رفاهيتهم على طاولة العمليات المالية، ولهذا نظموا العديد من الاحتجاجات في أنحاء البلاد ضد مختلف التغييرات التشريعية.

في مارس آذار عام 2001، ذهب مئات الآلاف من العاملين في الدولة الكولومبية في إضراب لمدة 24 ساعة للتظاهر ضد السياسات الاقتصادية التي أدت إلى عمليات التسريح الجماعي وتقليل المنافع الاجتماعية. من المتوقع أن يبلغ عدد الذين سيتم تسريحهم من عمال وموظفين هو 000،100.

ابتداء من 15 مايو أيار 2001، ذهب أكثر من 000،125 من العاملين في مجال الرعاية الصحية و000،300 من معلمي المدارس العامة في اضراب لمدة شهر احتجاجا على مشروع قانون من شأنه أن يضع حدا للاموال الاتحادية التي تُصرف على إدارات البلديات للتعليم والرعاية الصحية وغيرها من الاحتياجات الاجتماعية.

حذّر منتقدو القانون من أن تنفيذه سيؤدي إلى فقدان 000،416،1 طالب لأماكنهم في نظام التعليم العام، إضافة إلى ما يقدر بـ 3 ملايين شاب كولومبي هم بالفعل خارج النظام. وقالوا أيضا أن نحو 2.5 مليون من الكولومبيين سيُستبعدون من الرعاية الصحية العامة.

بالرغم من كل ذلك تم تمرير مشروع هذا القانون في 20 يونيو حزيران 2001، فاحتجت أكبر منظمات المعلمين في كولومبيا ونقابات العاملين في مجال الرعاية الصحية ، وأعلنا على الملأ: "منذ وقت خطة التنمية لحكومة باسترانا، لم نشهد أي مبادرة أخرى خلقت مثل هذه الحركة المعارضة. ولكن، يبدو أن متطلبات صندوق النقد الدولي ورأس المال المالي المحلي تحل محل مصلحة الوطن والشعب الكولومبي".

ثم جاءت خطوة العملية الجراحية المدمرة الأخرى وهو نظام التقاعد. كان هذا إصلاحا مثيرا للجدل وهو التزام كولومبي آخر لصندوق النقد الدولي، ومن المتوقع أن يحشد الجمهور الكولومبي في المزيد من الاحتجاجات المناهضة للصندوق.

الصندوق رسّخ الديكتاتورية وأضعف الديمقراطية

______________________________

مع تبنّي الدولة الكولومبية الاستراتيجية الاقتصادية النيوليبرالية، أصبحت أكثر تسلطا وفاشية. فلغرض الحصول على المزيد من القوة لخوض الحرب التي ترعاها الولايات المتحدة تحت غطاء "الحرب على المخدرات" ومواجهة حرب عصابات بلغ عمرها 40 عاما، استخدمت الحكومة تلك الصلاحيات للقمع المتزايد للحريات الديمقراطية.

القوانين الأخرى التي تمّ تمريرها مثل قانون الحرب، منح الجيش الكولومبي مساحة أكبر للقضاء من جانب واحد على "إرهاب حرب العصابات" كما يسمّونه. أعلنت المنظمات غير الحكومية الكولومبية والدولية، مستندة إلى التجارب السابقة، عن قلقها من ان مثل هذه الزيادة في صلاحيات القوى العسكرية سوف تُستخدم أيضاً لإسكات أي أصوات معارضة تتحدى إرادة الحكومة الكولومبية.

من خلال الاعتماد بشكل كبير على قوة جيشها الذي ترعاه الولايات المتحدة فإن كولومبيا في خطر تفاقم مستوى العنف والتسلط للدولة. هذا هو النهج المُضلل الذي من المرجح أن يُستخدم لقمع قطاعات من السكان تعاني أكثر من غيرها من السياسات الاقتصادية الليبرالية الجديدة في كولومبيا.

عن طريق إسكات الاحتجاجات المعارضة لسياست صندوق النقد الدولي، وتضييق الخناق على الفضاء السياسي الذي يسمح للمدنيين بالمشاركة في العمل السياسي، فإن هذا سيقوي الاستبداد في كولومبيا وقد تكون نتيجته تقويض العملية الديمقراطية، وتفاقم المصائب والبلايا الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في كولومبيا.

وسوم: العدد 663