الهيئة العليا للمفاوضات السورية وحكومة فيشي !

clip_image002_8a4b1.jpg

أؤمن بالمنهج القائل :" لا يمكن تفسير التاريخ بالتاريخ" وقد كتبتُ في هذا منذ زمن بعيد!.

ودون أنْ أجرحَ هذا المنطق النظري السالف الذي ينفي الحتمية القائلة: إنّ التاريخ يعيد نفسه؛ وذلك لاختلاف الزمان والمكان وتغيّر الظروف التاريخية والموضوعية والايديولوجيات والثقافات والسياسات وسطوة الرأي العام والإعلام، والأجيال العابرة للدول والحدود- يمكن لنا  النظر بحرية إلى الأحداث التاريخية بعين فاحصة ، ويمكن أن نقابل الأحداث الهامة والسياقات التاريخية في حقب مختلفة، ونقارن، ونستنبط، ونتكئ على الحوادث لفهم ما يجري حولنا وعلينا في" ظروف حرب تتشابه " في النتائج لوجود الرابط السببي بين: مخرجات الحرب العالمية الثانية، واندلاع الحرب العالمية الثالثة التي تدور رحاها "الآن" على رؤوس السوريين !

والجديد في اللوحة القديمة هو: أنّ النازية القديمة المنهزمة " دول المحور" ؛ حلّت محلها نازية جديدة " دول الحلفاء" المنتصرين في الحرب الثانية؛ بعد أن تقاسموا بشراهة مناطق النفوذ في العالم وفق دعاوى استعمارية دموية فاجرة وجديدة تحت مسمى: إغاثة الغريق حتى يغرق!

- وعملاً بآلية مقابلة الأحداث التاريخية مع بعضها بعملية تظهير واقعية واستنباط منطقي: أرى في هذه الحقبة المظلمة تشابهاً في الشكل والوظيفة والدور بين " حكومة فيشي الفرنسية والهيئة العليا للمفاوضات السورية؛ الجسم السياسي البديل للمعارضة الخارجية الخلّبية !

 أين التقابل والتشابه؟ وأين الافتراق بين الهيئة العليا السورية للمفاوضات المنبثقة عن مؤتمر الرياض في المنفى (2015-2016) وبين  نظام وحكومة فيشي الفرنسية (1940-1944 ) التي نشأت في ظل الاحتلال النازي لفرنسا؛ رغم الفارق بين الشعبين والبلدين والبعد الزمني والتاريخي الذي مضى وانتهى منذ (75) عاماً ؟.

- لو نظرنا إلى حال فرنسا وظرفها التاريخي وخريطتها في عام (1940) ونظرنا إلى مأساة سورية وخريطتها السياسية والعسكرية في عام (2016) لوجدنا أنَّ:

-  فرنسا محتلة من النازية القديمة وحليفتها الفاشية (ألمانيا وإيطاليا) ومقسمة جغرافياً إلى ثلاث مناطق " الأحمر والأصفر للمحتل، والأزرق لحكومة  فيشي"  وبين هذه الخطوط والمناطق تنشط على الأرض مقاومة شعبية مسلحة وحركة أنصار تحارب المحتل الأجنبي، وحكومة الاحتلال الفيشية العميلة !

 - وسورية محتلة من النازية والفاشية الجديدة ( روسيا وأمريكا وحليفهما الإيراني ) وبالنظر إلى خريطتها  نجدها مقسمة جغرافياً  إلى ثلاث مناطق وثلاثة ألون " الأحمر للمحتل الروسي- في اللاذقية وطرطوس" أي القاعدة البحرية والمطار"- والأصفر للمحتل الأمريكي وحليفه حزب الـPKK  وذراعه العسكري في الشمال السوري؛ إذ توجد قاعدتها ومطارها  العسكري وقوات المارينز  في " رميلان – تل أبيض – سد تشرين – عين العرب – عفرين . والأزرق: للمحتل الإيراني والنظام في دمشق وبعض مدن ريفها وحمص واللاذقية وطرطوس. وهناك منطقة رابعة  لكتائب المعارضة الإسلامية المسلحة والجيش الحر، ومنطقة خامسة لتنظيم الدولة الإسلامية؛ وهما أقوى وأعنف من حركة المقاومة الفرنسية التي ارتبطت بفرنسا الحرة!

وبمقارنة الحالين بالنظر إلى الخريطتين نجد تشابهاً وتماثلاً كبيراً ؛مع الفارق أنّ النازية ومحورها كانت مُطبقة على فرنسا أكثر من إطباق روسيا وأمريكا وإيران على سورية؛ رغم وجود حركة المقاومة الفرنسية الموحدة على الأرض ووجود حكومة فرنسا الحرة بقيادة الجنرال ديغول في المنفى!

ولإيجاد العلاقة بين الفيشية والهيئة العليا للمفاوضات السورية لابد من الوقوف عند حادثة صرف رئيس وفد المفاوضات السورية وكبير المفاوضين من هيئة المفاوضات التي اختصرت المعارضة السياسية لنظام الأسد في هيئتها وأشخاصها، واحتكرت تمثيل السوريين بقوة الداعم الإقليمي وماله ونفوذه على جماعة الهيئة العليا التي: تسكن في دارهم، و تأكل من ماعونهم ،وتأتمر بأمرهم ، وتنفّذ سياساتهم المرتجلة التي بددت الثورة وصادرت قرارها المستقل وأوصلت سورية مع المحتلين وغزوهم وعدوانهم إلى ما وصلت إليه من: قتل السوريين وهدم ديارهم وتشريدهم في بقاع الأرض، والإعراض الأممي المتعمد عن أكبر مأساة استراتيجية في العصر الحديث، في ظل عودة الاستعمار الجديد الذي تباشره بيدها ومالها وسلاحها  وأساطيلها ورجالها- دول الفيتو الكبرى التي تملك الوكالة الحصرية لرسم الخرائط الجديدة والعبث بمصير الأمم الضعيفة وتحطيمها، وتحويلها إلى بؤر صراع لا يتوقف ولا ينتهي !

- بداية  لست باكياً على صرف رئيس وفد الهيئة العليا للمفاوضات إلى جنيف ولا كبير المفاوضين؛ فكلا الرجلين غير فاعلين؛ إذ لم يفاوضا أحداً، ولم يعترف بهما النظام وحلفائه، ولا رعاة جنيف كطرف مفاوض، ولم يلتقيهما؛ بل ساحا في جنيف مع السائحين، واكتفيا بالتصريحات الإعلامية النارية؛ ولكن طردهما بما يمثلانه- له دلالة تأخذنا إلى الحالة " الفيشية ذاتها " إذ  يرمي :إلى إعادة هيكلة الهيئة العليا للمفاوضات، وتشكيل وفدها المفاوض من: فلول النظام، مع الإبقاء على العلاقة مع بعض العسكريين دون تفاعل على الطريقة الفيسـبوكية ، ومن معارضة القاهرة، ومعارضة موسكو، ومعارضة مطار حميميم الروسية؛ وممثلين عن الأكراد الأوجلانيين؛ وربما نساء ديميستورا- لتأخذ شكلها "الفيشي " بعد تراجع دور الحلفاء الإقليميين المؤيدين للثورة السورية باللسان لصالح الاتفاق الأمريكي- الروسي؛ إذ تقاطر الحلفاء والداعمون؛ فرادى وجماعات- للحج إلى موسكو للتسليم بدورها ونفوذها المطلق في تقرير مصير سورية وشعبها المعذب؛ ومباركة أمريكا لتدمير ما بقي من العراق؛ والبداية من الفلوجة!

والفرق الوحيد  في مشهد المقارنة هذا: أنّ حكومة فيشي كانت في بلدة فيشي الصغيرة آنذاك " وتعدادها الآن في( 2016 ) لا يتجاوز (25) أ لف نسمة "ومن هذه البلدة حكمت فرنسا اسمياً بعد أن حظيت بموافقة الجمعية الوطنية الفرنسية. وحكومة الهيئة العليا للمفاوضات  السورية "الفيشية" في المنفى التي يراد لها أن تحكم سورية افتراضياً  موجودة في فندق بالرياض  ويراد نقلها من الفندق إلى دمشق   " مع دستور جاهزٍ أعدّه المحتل في موسكو، وسيوافق عليه مجلس الشعب القائم، كما وافقت الجمعية الوطنية الفرنسية؛ لتقوم  الحكومة الفيشية الجديدة :

  - بتحليل الاحتلال وتزكيته، وتبرئته من قتل السوريين وتشريدهم وهدم مدنهم وديارهم وعدم المطالبة بالتعويضات مستقبلاً جراء هذا العدوان والاحتلال؛ لأنّ النظام الطائفي الفاقد للشرعية الذي ارتبط اسمه بجريمة حرب الإبادة الجماعية والتطهير في سورية غير قادر على منح المحتلين "صك الغفران" وإٍبراء الذمة المطلوبة !. 

- تكريس تقسيم سورية المقسّمة بين دول الحلفاء "النازية الجديدة " روسيا وأمريكا وحليفتهما إيران وميليشياتها وفق خرائط وكيانات جديدة، ولن يكترث المحتلون- عندها- بمصير رأس النظام السوري العميل بعد تنصيب الفيشيين الجدد في جرمانا أو جوبر؛ أسوة بحكومة فيليب بيتان في بلدة فيشي الصغيرة!

  - تبييض صورة السلطة الجديدة في عيون الرأي العام من قبل أمريكا وروسيا لطي صفحة السلطة الأسدية الملوثة بالدم والعار؛ لبدء حقبة استعمارية جديدة باسم حكومة متعاونة ستمنحها دول الاحتلال شرعية دولية لتقوم عندئذٍ بتقديم التفويضات المطلقة للمحتلين؛ ثم تصفية جيوب المعارضة بصك مكتوب وممهور ومصدّق من مجلس أمن الخمسة الذين يطبقون على العالم ويتقاسمون نفوذه !

- هكذا يفكرون، وغير هذا لا يرونَ، إذ ليس في مخيلتهم الاستعمارية المريضة غير هذا الحل؛ وقد جربوه في أفغانستان والعراق بتهور وفجور، وقد جلب الكوارث والأهوال على البلدين اللذين خرجا من الحاضر والمستقبل والتاريخ. وبموجب هذه الاستراتيجية العدوانية الحمقاء يعملون على الأرض بالحديد والنار بمعزل عن إرادة السوريين المختطفة. ولكن في النهاية نستدرك ونقول :قد لا يصل المحتل إلى غاياته جراء هذا التخبط والإجرام ،وقد لا ينال الفيشيّون مرادهم وسيحصدون مع رعاتهم الخيبات واللعنات وراء اللعنات؛ بئس الرِّفدُ المرفُودُ !. 

وسوم: العدد 672