إيران تهاجم الفلوجة برّاً وأمريكا تقصف جوّا
يجمع الوضع في معركة مدينة الفلوجة العراقية كل التناقضات العربيّة والعالمية في بؤرة واحدة، ولكنّه، بالنسبة لسكّانها، لا يحمل غير كارثة جديدة، في سلسلة لم تنته من المصائب منذ الاحتلال الأمريكي للعراق عام 2003، بشكل يؤهّلها لتحويل اسمها من مدينة الجوامع إلى مدينة الموت.
أكبر التناقضات التي تحملها المعركة الحاليّة هي وجود تنسيق عسكري غير مسبوق في العراق بين الولايات المتحدة الأمريكية والجمهورية الإسلامية الإيرانية.
يعتبر إرسال طهران قيادات كبيرة كقاسم سليماني قائد فيلق «القدس» ومحمد باكبور قائد القوات البرية للحرس الثوري إعلاناً واضحاً عن قيادتها المباشرة للمعركة البرية وانخراطها المباشر فيها، وفيما تقوم واشنطن (تحت مسمى «قوات التحالف») بتغطية سماء المعركة بطائراتها المقاتلة، وهو ما يعني، بالضرورة، تناغماً بين العمليات الجوّية الأمريكية والبرّية الإيرانية بحيث تشكّل إيران، فعليّاً، الذراع الضاربة لقوّات التحالف الأمريكية ـ الغربية على الأرض العراقية.
ما يجعل هذا التحالف مثيراً للدهشة أن المرجعيّة الإيرانية الكبرى ممثلة بآية الله علي خامنئي (وصفا طويلا من المسؤولين الأدنى منه) لا ينفكّ يعلن أن أمريكا هي أكبر أعداء إيران (وآخر مرّة حصل ذلك كان في تصريح له أمس)، وإذا اعتبرنا هذا التصريح شكلاً من أشكال «التقيّة» الإيرانية المعروفة فكيف نفسّر إذن تقرير وزارة الخارجية الأمريكية حول الإرهاب في العالم الذي صدر أول أمس واعتبر إيران «في طليعة البلدان التي ترعى الإرهاب في العالم بالمال والسلاح والتدريب»؟
المفارقة الكبيرة هنا أن كل هذا يجري من دون أن تضطر واشنطن لتفسير كيف تنسّق عسكريّا مع بلد تعتبره «يرعى الإرهاب في العالم بالمال والسلاح والتدريب»، ولا تفسّر أيضاً كيف يقول خامنئي أمام الجماهير الإيرانية قبل أيام إنه يستبعد التعاون بين البلدين ضد تنظيم «الدولة الإسلامية» في العراق وسوريا لأنه «لا يثق بأمريكا»؟
هذه المفارقات المزعجة تجد دائماً تبريرها المعلن أحياناً، أو الخفيّ أحيانا أخرى، في أن البلدين يواجهان عدوّاً مشتركاً هو تنظيم «الدولة الإسلامية»، وهو تبرير غير مقنع لأن الأجندة الإيرانية الحقيقية لا يهمّها في الحقيقة صعود «الدولة الإسلامية» إلا بقدر ما يشكّل خطراً على مصالحها القوميّة، التي تعتمد الإبقاء على نوازع الاحتراب فاعلة في العراق، وذلك من خلال التلاعب بقواه السياسية كافّة، بما فيها «الدولة الإسلامية»، التي وجّهت إيران لها تحذيراً واضحاً بعدم الاقتراب من حدودها، وهو الأمر الذي التزمت به الأخيرة بدقّة.
لا يُنكر مع ذلك أن استيلاء «الدولة الإسلامية» على مناطق شاسعة من العراق واكتساحها مدن الأنبار واقترابها الحثيث من بغداد والمحافظات الجنوبيّة الشيعيّة قلب التوازنات السياسية وحفز آية الله علي السيستاني لإطلاق فتواه الشهيرة التي أدّت إلى تشكيل «الحشد الشعبي»، وهو ما أعاد صياغة أسس اللعبة السياسية في العراق وجعل عامل الدفاع عن هيبة إيران كدولة حامية للشيعة متقدّما في سلّم أولوياتها الأخرى، كدولة فارسية مستفيدة من اقتتال العرب، شيعة وسنّة، وهو ما يفسّر مثلاً الأهمية الكبرى التي أولتها للسيطرة على بلدة آمرلي الشيعية التي تحيطها بلدات سنّية من كل صوب، والمفارقة كانت أن أمريكا قامت بالتغطية الجوّية لهذه المعركة التي قادها قاسم سليماني نفسه.
المثير للسخرية في هذه التراجيديا الكبرى هو سقوط مفاهيم عميقة ترتبط بأسس الوطنية والقومية والدين، فالحرب الدائرة في العراق يقودها طرفان أجنبيان هما أمريكا وإيران، ويتواضع حضور الدولة العراقية التي لم تعد تملك من مفاهيم السيادة والوطنية والقوميّة وحتى الدين شيئاً.
وسوم: العدد 672