فى مهب النسيان ...

 جال بخاطري كثيراً أن أُمعنَ التفكيرَ في ذاك المدعو النسيان الذي يعرفه الجميع ويتذوقون طعمهُ الشهى أوالمُرِ أحياناً ويكاد يكون بلا إستثناء بطلاً لكثيرٍ من مواقفنا الطريفه التى نجده متورطاً بحياكتها من أيسر الخيوط، إنه ذلك الزائر الذى يؤز ترتيب حياتنا أزاً حين يداهمنا عُسر التذكر وموسم جفاف إنقطاعه فيهزم عقولنا شرَّ هزيمة، ففى لحظة ما نج...د أننا نفقد القُدرة على تذكر المعلومات المُخزنةِ بالذاكرة، وهو لا شك نعمة فى كثير من الأحيان حيث يعمل كالعِقار المُخدر الذى يسرى فى أرواحنا ليُخفف ألماً أو حُزناً أو ننفك به من ذكرى فجيعة فلا يبقى ولا يذر من شهقات الحُزنِ شيئاً إلا وخبأه فى بقعة غير محسوسة بين أنقاض الذاكرة، وسُمي الإنسان إنساناً لأنه كثيراً ما يُخيط من النسيان رداءً يقيه من إزدحام الأحداث عليه حتى لا تأتيه كضربة رجل واحد وإنما تتسرب من بين رُدهات ذاكرته قطرة قطرة.

ليس سهلاً أن نجعل من ذاكرتنا موطناً دائماً لكل الزخم الذى يمرُ بنا من أحداث ومواقف، فنحنُ فى عصر يكثر فيه تكدُس المُتطلبات الحياتية المُعقدة، وتكادُ خُطانا أن تهلك لاهثةً من ركضها الوئيد خلف ايقاع الحياة المُتسارع، فنحن منوطين بتذكر كل الأماكن التى نزورها وكل ارقام الهواتف وكلمة المرور للإيميل وكلمة السر فى بطاقة الصراف الآلى وترددات بث القنوات الفضائية ومواضع اشيائنا الخاصة ووجوه البشر الذين نعتاد التعامل معهم بل ومضطرين لتذكُر طعم الفرحة والألم التى مرت بنا يوماً، فمع كل المُستحدثات التى أوجبت تغييراً فى حياة الإنسان وجدنا أنفُسنا مُحاطين بهالة من النسيان تتبعنا كظلنا وأحيانا تكون ثقيلةً على النفس فتأخذنا الى عالم الأموات ونحن لا زلنا بين الأحياء حين تفصلنا بجدار عازل وتحبسنا عن اللحاق بالأحداث من حولنا، وأحياناً تمنحنا سانحةً نخُلدُ فيها للراحةِ التى تأخذنا بعيدا عن قسوة الواقع.

نجترُ الكثير من القصص والمواقف الطريفه التى كان بطلها النسيان مُثبتاً جذوره فى ثنايا تفاصيلها المُضحة المؤلمة، كذلك الذى نسي هاتفه فى الثلاجة يرتعدُ برداً فى شتائها وزمهريرها وهو يقتلُ الأرضَ بحثاً عنه! أو ذلك الزوج الملخوم الذى إصطحب عائلته للترفيه بإحدي الحدائق العامة وما أن أوصلهم حتى داهمه نعيق هاتفه الجوال فأخذه واتجه الى سيارته و أثناء حديثه واصل طريقه الى المنزليته ادى فى موكب برئناسياً عائلته!! و لم يقف به النسيان عند ذلك الحد فعندما أعيته ساعات الإنتظار الطوال اتصل بزوجته مُزمجراً كالنهر الهادر مُوبخاً ظاناً (وبعضُ الظن إثم) أنها خرجت بالأبناء دون إذنه، فكانت نهايته أن قالت زوجته: بيت ابوى طوالى!!

النسيان ليس سيّان و أتمنى أن ينزل علينا غيثاً يغسل عنا رُكامات الأمس المُتسخة، ويُذيب كُل همِ وغم ويلبِسنا اثواباً من فرح، ولا يأتي على إخضِرار ذاكرتنا أو يُبعثر ترتيبهابنسائمه فيُخبئها كطيف آفل.

وسوم: العدد 675