التموضعات الجديدة ومزاعم التقسيم الكوردي؟
خلق التوغل التركي في جرابلس حزمة من الاستفسارات أقلها التوجس من اختراق السيادة الوطنية. لكن هذه الأخيرة تحديداً لم يعد لها وجود, في ظل ما تشهده الساحة السورية من تدخلات وتجاذبات. وباتت مسألة المشروع السوري المستقبلي من أكثر الاستفسارات المطروحة.
الضوء الأخضر شغال ومضاء على طول الخط الحدودي وها هو يجتاز المناطق الحدودية, في مقابل الضوء الأحمر وإلزام قوات سوريا الديمقراطية بالعودة إلى شرق الفرات, في تنفيذاً لاتفاقية موقعة بين الأتراك والأمريكان قُبيل دعم قسد في حملة منبج. ما يُوحي أن المياه كانت راكدة بين تركيا وأمريكا, وربما كانت جارية تحت أقادم الكورد في سوريا.
كانت ولا تزال ذهنية قسم كبير من الأطراف السياسية الكوردية تسعى للحفاظ على العلاقات والتواصل مع العمق السوري, لكن تتالي الانكسارات في العمق الكوردي نتيجة تتالي القرارات والمراسيم المجحفة بحق الكورد قُبيل الثورة وأثنائها من جهة, وتمسك الكورد بحقهم وارثهم التاريخي من جهة ثانية, يدفعان بالعامل الكوردي إلى السطح دوماً ومغبة تفجير الوضع أكثر مما هو عليه بات من الأمور الأكثر ترجيحاً, وما دعوة الكورد للفدرالية سِوىَ محاولة للحفاظ على سوريا من التقسيم.
ثمة مخاوف جمة اليوم تعتري الشعب الكوردي في سوريا من احتمالية امتداد النار التركية لتلتهم مجمل الحركة السياسية الكوردية, وإخراج الكورد من نتائج الاتفاقيات الدولية حول سوريا التي من المرجح أن تكون في طريقها للإعلان. مخاوف تعتري تنفيذ حلم الكورد بكيان كوردي سوري عبر نظام حكم فدرالي.
لم يكن الكورد يومأً دعاة انفصال. انحصرت سقف المطاليب الكوردية بالدعوة إلى دولة اتحادية فدرالية تعددية في سوريا. كحل يُرضي جميع الأطراف ويمنح الطمأنينة للمكونات من ضمان عدم الاعتداء على بعضهم البعض, واللجوء إلى تنفيذ العدالة الانتقالية.
اللوحة السورية أوضحت عن التموضعات الإقليمية الجديدة. تركيا أنهت وضعية الاكتفاء بدعم وتمويل المعارضة السورية المسلحة وانتقلت إلى حيز حجز بقعة جغرافية لها في سوريا لن تخرج هكذا ببساطة دون فوائد وصفقات وضمانات كبيرة, واستطاعت تركيا أن تتكيف مع الداخل السوري وتتموضع إقليميا عبر الاتفاقيات والتعهدات المؤخرة مع روسيا وإيران وأمريكا.
خاصة وأن لا أحد مُهدد من الخروج خالي الوفاض من توزيع المصالح ونتائج الثورة في سوريا باستثناء الكورد, وخاصة الإتحاد الديمقراطي. من جهتها إيران تسعى إلى فرض تموضع جديد في الساحة السورية بعد الانتكاسات التي أظهرتها روسيا إعلاميا تجاه إيران وإظهار سوريا كمنطقة نفوذ روسي لا إيراني خاصة عَقِبَ رفع الغطاء الجوي الروسي عن الأذرع العسكرية المساندة للنظام السوري والمسنودة أو القادمة من إيران. وهي حتى الآن عاجزة عن فعل ما يضمن بقاء رئيس النظام إلى ما بعد المرحلة الانتقالية, وتأمين موقعها في المياه الدافئة.
خاصة وأن التموضع الأمريكي الجديد المتناغم مع الموقف الروسي حول ضرورة التوجه نحو محاربة الإرهاب والتصدي لدعش وإقامة حكومة انتقالية مع بقاء رئيس النظام السوري يجعل من إيران في موقف حرج لجهة كونها ليست الضامن الوحيد لبقاء النظام السوري في المرحلة الانتقالية, خاصة وأن مصالحها –أمريكا -مضمونة في ظل بقاء أو عدم بقاء رئيس النظام, إضافة إلى تناغم الموقف الأمريكي مع الموقف التركي والموقف الروسي من قضية انسحاب قوات سوريا الديمقراطية إلى شرق الفرات وترك المساحات التي حررتها. تضع المنطقة في اتجاه موازين قوة جديدة.
الحرب والنزاع والسجال الدائر في سوريا أرق كاهل الشعب السوري, لكن ما زاد من حجم أرقهم وقلقهم وتعبهم هو قصة التقسيم التي تُعاد صياغتها كلما حدثت اتفاقيات جديدة, أو ظهر استقطاب سياسي جديد. لا يزال شعار ( الشعب السوري واحد) يُشكل نبراساً للغيورين على وطنهم, لكن تحميل الكورد وحدهم مغبة تقسيم سوريا يحمل من الأحقاد والكراهية أكثر مما تحمل من الدلائل والإثباتات.
خاصة وأن التقسيم يعني إزالة سوريا من الخارطة العالمية والإقليمية, فإن بادر الكورد للتقسيم بحسب زعم هؤلاء إلى أين يتجه الجسم الباقي من سوريا ومن يقسمه ومن يَبني دولته, ومن يبعثر الباقي من سوريا. ثمة حيرة كوردية بين تهمة الانفصال وتهمة التقسيم بما يحملان من معنيين متداخلين ومختلفين, فهل الكورد انفصاليون يسعون لسلخ إقليمهم فقط عن باقي الجسم السوري, أم أنهم انقساميين يسعون لتقسيم سوريا عبر اخذ كيانهم الجغرافي والذهاب به بعيداً عن سوريا وتفتيت الأخيرة.
لكن هذا يدفع وبالضرورة عامل التعاون إلى الواجهة, مع من يتعاون الكورد للتفتيت والتقسيم في سوريا. هذه أحاجي أطلقها بعض الشوفينيون ضد الكورد ولم يستطيع إيجاد أجوبة لها. ثم مع من تجادلَ وتناقش وتحاورَ وحلل الكورد قضية التقسيم والانفصال عن سوريا. ومتى كانت الفدرالية تقسيماً أو انفصالا, وهل حقيقة تُعاني سوريا من عُقم في إيجاد سياسيين قادرين على استيعاب مفهوم الفدرالية.
للأسف فإن القضية تجاوزت المخاوف السورية من الطرح الكوردي في سوريا. اليوم انتقلت عبثية الحوار الكوردي العربي في سوريا إلى خلق حالة استعصاء جديدة. حتى الأمس كان الاستعصاء السياسي السوري – السوري, والسوري – الدولي في أوجه, كما أن عجز الحسم العسكري أدخل سوريا معارضة وموالاة, أدخلتهم في خانة الضياع والتشرد, اليوم ثمة استعصاء سوري على صعيد المكونات وعدم قدرة التوصل إلى بلورة مشروع جامع لجميع المكونات.
خاصة إذا علمنا أن مشروع الدولة الوطنية في حقبة ما بعد الاستعمار قد فشل فشلاً أنتج مسوخاً وكوارث بشرية واقتصادية. لكن ما يتجاهله البعض عمداً؛ أن سوريا مشتتة ثمة مناطق توزيع للنفوذ وللقوة, وتوزيع القدرات والإمكانيات العسكرية والبشرية بين مختلف الأطراف المتنازعة في سوريا. بل أن ضمن المنطقة ذاتها ثمة توزيع أدوار وتوزيع حصص ومناطق سيطرة. فأين دور الكورد التقسيمي, وأين شغف الكورد بالانفصال.
فهل سيعتمد الشعب السوري إلى الفدرالية كضامن لعيش المكونات مع بعضها البعض دون أي تهديد لمصيرهم ومستقبلهم, أم ستُفتح الساحة السورية على مصراعيها لمزيد من هدر الدماء والاستمرار في صراع لن ينتهي دون توافق داخلي.
وسوم: العدد 684