حديث ما بعد الانتخابات على كل مواطن أن يصدق مع نفسه في تقدير تضحيته من أجل وطنه
مرت التجربة الانتخابية بالمغرب في ظروف اتسمت بصراع حاد بين طيفيين سياسيين برزا على الساحة باعتبار ما حققاه من نتائج مع وجود أطياف أخرى منها الطيف المحسوب على النضال التاريخي ، ومنها الطيف المحسوب على النظام ، ومنها الطيف المحسوب على معارضة النظام . وكانت الحملة الانتخابيةضارية بين الطيفين البارزين طيف محسوب على المرجعية الإسلامية ، وآخر محسوب على المرجعية الحداثية ، وقد حاول كل طيف التشكيك في مصداقية الآخر أمام الشعب المغربي . وإذا كان الطيف الحداثي قد حذر من مرجعية غريمه الإسلامية ، فإن هذا الغريم بدوره حذر من مرجعية خصمه الحداثية . ويرفع كل حزب منهما شعارا تتضمنه تسميته ، فواحد يرفع شعار العدالة والتنمية ، والآخر يرفع شعار الأصالة والمعاصرة . ولا شك أن تسمية الطيفيين السياسيين ليست اعتباطية بل مقصودة . فلا شك أن تسمية الطيف المحسوب على المرجعية الإسلامية قد اختار هذه التسمية تيمنا بتسمية الحزب التركي المحسوب على المرجعية الإسلامية أيضا . ولم يكن هذا الطيف الوحيد في الوطن العربي الذي اختار هذه التسمية كما هو الشأن بالنسبة لحزب الحرية والعدالة المصري . ولم يكتف حزب العدالة والتنمية باقتباس اسم قرينه التركي بل اقتبس منه لوغو المصباح أيضا . وهذا الاقتباس هو سبب تعرضه للنقد من طرف جهات دولية وإقليمية تتوجس مما تسميه الإسلام السياسي ، وهي تحاول إيجاد صلة بين قناعات أصحابه ، وقناعات جماعات متطرفة لا تؤمن بالعمل السياسي بل بالعنف . وهذه التهمة هي التي جعلت العالم يسكت عن الانقلاب العسكري في مصر ، وهو انقلاب على الديمقراطية والشرعية . وتحاول الأحزاب المحسوبة على المرجعية الإسلامية تبرئة نفسها من تهمة العنف والإرهاب وتهديد الديمقراطية من خلال القبول بلعبة الديمقراطية وقبول التناوب على السلطة . ولقد أثبت حزب العدالة والتنمية التركي احترامه للديمقراطية ، وكذلك فعل حزب العدالة والتنمية المغربي ، وحزب النهضة التونسي . وبالرغم من برهنة هذه الأحزاب على أنها مؤمنة بالديمقراطية وبمبدإ التناوب على السلطة، فلا زالت محل شك الجهات المتوجسة مما تسميه الإسلام السياسي والتي تشكك في نواياها ،وتعتبر انخراطها في اللعبة الديمقراطية مجرد مناورة سياسية لتحقيق حلم الخلافة الإسلامية المستبدة ، وهو الحلم الذي تتذرع به الجماعات المحسوبة على الإسلام والممارسة للعنف والإرهاب باسم الجهاد . أما تسمية الطيف المحسوب على الحداثة ،فقد جاء الشطر الأول منها كردة فعل على الطيف الخصم ، ذلك أن لفظة أصالة تعكس التنافس على الانتماء الديني بين الطيفين الخصمين حيث يتهم الطيف الحداثي خصمه باستغلال الدين الذي هو مشترك بين الجميع، والذي يحرص البعض على فصله عن السياسة، وفي هذه القضية نظر سنذكره في حينه . وأما لفظة معاصرة، ففيه إشارة واضحة إلى معنى الحداثة، لأن هذا العصر هو عصر الاتجاه الحداثي الوافد من الكيانات الغربية العلمانية و هومهيمن بموجب العولمة التي تحاول ابتلاع كل الثقافات كما كان دأب الإيديولوجيات التوسعية كالنازية و الرأسمالية والماركسية وما شابه ذلك . ويعتبر الطيف السياسي المحسوب على الحداثة أن المعاصرة هي القيمة المضافة بالنسبة إليه ،والتي لا يتوفر عليها خصمه الذي يتهم بالرجعية والأصولية بسبب مرجعيته الدينية . وكما يتهم الطيف السياسي المحسوب على الحداثة غريمه المحسوب على الإسلام بالتبعية لتنظيم ديني عالمي، وتحديدا تنظيم الإخوان المسلمين ، فإن الطيف السياسي المحسوب على التوجه الديني يتهم غريمه بالتبعية للغرب في حداثته والانبطاح له .
والواقع أن ثنائية الدين والحداثة من مميزات بلدنا العربي الإسلامي ، ذلك أن الدين قد ورثه الخلف عن السلف طيلة قرون، وهو ما يميز الهوية المغربية الإسلامية ، في حين تعتبر الحداثة وافدة بسبب خضوع بلدنا ككل البلاد العربية والإسلامية للغزو الغربي خلال القرنين التاسع عشر والعشرين . وعلى غرار الصراع السياسي الناشىء بسبب الاحتلال الغربي للبلاد العربية الإسلامية ، وهو صراع أخذ شكل صدام مسلح حيث نشأت حركات ثورية وجهادية لتحرير البلاد وطرد المحتل ، نشأ أيضا صراع حضاري وفكري بين الأصيل والوافد فكرا وثقافة . ولقد تناول الباحثون موضوع الصراع بين الأصيل والوافد ، وقد سماه البعض الصراع بين القديم والجديد ، وهو صراع انتقل من صراع بين المحتل الغربي والإنسان العربي إلى صراع بين العرب فيما بينهم بالوطن الواحد حيث اختلفوا في طريقة التخلص من تخلفهم ، فبعضهم راهن على الأصالة المتمثلة في التشبث بالهوية الدينية ، والبعض الآخر راهن على المعاصرة المتمثلة في تبني الحضارة الغربية تكنولوجيا وإيديولوجيا . ولئن اتفق المختلفون في موضوع تبني ما هو تكنولوجي ،فإنهم اختلفوا كأشد ما يكون الاختلاف حول ما هو إيديولوجي. ولقد رصد الدكتور محمد الكتاني ، وقد تقلد منصب مستشار الملك ظاهرة الصراع بين القديم والجديد في أطروحته لنيل شهادة الدكتوراه وقد كان تناوله يغلب عليه الطابع الأدبي وإن لم يخل من إشارات إلى ما هو إيديولوجي وسياسي وثقافي واجتماعي . وتناول غيره قضية هذا الصراع من زوايا ومنطلقات مختلفة . وإجماع المفكرين والباحثين على وجود هذا الصراع دليل على انقسام المجتمعات العربية إلى مراهنة على الأصالة ومراهنة على المعاصرة أو الحداثة، وهو واقع لا يمكن إنكاره أو التنكر له . وواهم من يريد أن يتجاهل هذا التيار أو ذاك ، ومخطىء في الحساب والتقدير من يظن أن إقصاء الآخر أواستئصال ممكن بالنسبة لهذا التيار أو ذاك . فالذين يحملون شعار الاستئصال من الحداثيين يتقمصون وجهة نظر جهات غربية تتدثر بالعلمانية ،كما أن الذين يحملون شعار الاستئصال من الأصوليين يصدرون في ذلك عن خلفية الصراع مع الغرب دفاعا عن الهوية ، ومعارضة لغول العولمة واتقاء لزحفها وشرها الزاحفين بشراسة ، وهم يعتبرون مواطنيهم المتسلحين بشعار الحداثة نوابا عن الغرب أو عملاءه في صراعه مع العرب والمسلمين استمرارا لصراع القرنين التاسع عشر والعشرين ، ويعتبرون حرب المحتل ضد الوطن العربي والإسلامي انتقلت من غزو عسكري إلى غزو فكري يتمثل في تصدير إيديولوجيا الحداثة لمواجهة الدين ، ويتصورون أن الحداثة شكل من أشكال الاحتلال الإيديولوجي الذي لا يختلف شره عن شر الاحتلال العسكري ، وقد أكد ذلك عودة الاحتلال العسكري خلال هذا القرن إلى بعض البلاد العربية ،الشيء الذي يعني أن الاحتلال الإيديولوجي هو صانع الاحتلال العسكري كما كان الحال خلال القرنين الماضيين ، فضلا عن كونهم يتصورون أن التشبث بالهوية الدينية هو بمثابة مقاومة للغزو الفكري والإيديولوجي ، بل يعدل المقاومة المسلحة ضد الغزو العسكري.
هذه هي حقيقة وواقع البنية الاجتماعية في الوطن العربي الإسلامي . ويحاول كل من التيار، المتدين والتيار الحداثي إثبات ذاته ، وتقديم مشروعه الفكري أو الإيديولوجي كمشورع لا بديل له، ولا بديل عنه . ومن أجل ربح رهان المنافسة يعتمد كل تيار تكتيكا معينا ، فالحداثيون ومن أجل جعل حداثتهم مقبولة لدى الرأي العام في وسط محافظ، رفعوا شعار الأصالة مع ما بين مفهومها من تباين مع مفهوم الحداثة وهما على طرفي نقيض . ورفع شعار الأصالة مع التوجه الحداثي عبارة عن تكتيك لمواجهة الخصم أو المنافس المتدين حتى لا ينفرد بالوصاية على الدين، لأن انفراده به يجعل الحداثة في حالة شرود داخل مجتمع محافظ ومتشبث بهويته الدينية . والصراع بين التيارين شديد حول من يستميل الرأي العام عن طريق إظهار الاحترام للدين . ويصف الحداثيون خصومهم باستغلال الدين أو الريع الديني كما يسمونه . والأصوليون كما يسمونهم خصومهم يحاولون بدورهم جعل تدينهم مقبولا بالتزام الاعتدال فيه ،وبإظهار الانفتاح على ما تدعيه الحداثة لنفسها من مواكبة الركب الحضاري ، ويرفعون بدورهم شعار العدالة كرمز يحيل على عدالة الدين الإسلامي ، وشعار التنمية كرمز يحيل على الانفتاح الحضاري دون الانزلاق الحداثي حتى لا يكون في حالة شرود داخل مجتمع بالرغم من محافظته وتدينه يقبل على الحياة العصرية ويحاول التوفيق بينها وبين هويته وأصالته . ويختلف الطرفان في طريقة إثبات الهوية الإسلامية ، ذلك أن الحداثيين لهم فهمهم الخاص فيما يتعلق بانتمائهم الديني الذي يقتصر على الانتساب دون ممارسة لدى البعض حتى لا نعمم الحكم على الجميع ،لأن الحداثة بالمفهوم الوافد تقصي الدين من الواقع، الشيء الذي يجعل الحداثي في الوطن العربي الإسلامي مسلما غير مطبق للشعائر، تماما كما هو الشأن بالنسبة للحداثي الغربي المسيحي غير المطبق للطقوس ، وهي صيغة تلفيقية تحاول تقليص الهوة بين طرفي نقيض . ومن المعلوم أن الممارسة الدينية في الدين الإسلامي تتوقف على تأدية الشعائر الدينية، فضلا عن الالتزام بالقيم الأخلاقية لهذا الدين أقوالا تسايرها أفعال . وعندما ترتفع الدعوات بحرية الجنس، والرضائية، والمثلية، والإفطار في رمضان ... بين فئة الحداثيين ينشأ خلاف بينهم وبين الملتزمين بالدين بخصوص حقيقة الانتماء لهذا الدين . فهل يكفي انتساب الفرد للإسلام ليكون مسلما أم أنه لا بد من ممارسات يقتضيها هذا الدين ، ويجعلها شرطا ملزما للمنتسبين إليه ؟
وفي غمرة الصراع بين تيار الحداثة وتيار التدين يمكن للملاحظ أن يلاحظ بأن كل طرف يجتهد في النيل من غريمه بطريقة أو بأخرى عن طريق وسمه بما يفقده مصداقيته لدى الرأي العام . فالحداثيون وظفوا قضايا أخلاقية كقضية علاقة الوزير بالوزيرة، وعلاقة البرلماني بالبرلمانية ، وعلاقة الفيقه بالفقيهة لإيجاد ما يخرم تدين المتدينين ، ويطعن فيه ،ويوظف للحيلولة دون استغلالهم لما يسمونه الريع الديني الذي يلعب في نظرهم دورا مهما في ترجيح كفتهم في الانتخابات ، كما يستغل هؤلاء وجود ظاهرة الإرهاب والعنف الملصق بالدين الإسلامي لاتهام خصومهم المتدينين بالنهل من نفس المورد الذي ينهل منه الإرهابيون. والمتدينون بدورهم وظفوا قضايا أخلاقية ضد خصومهم كقضية الاتجار بالمخدرات ،والدعوة إلى الانحرفات من قبيل تشجيع حرية الجنس والرضائية والمثلية وغير ذلك مما يتنافى مع الدين . وفي الحملة الانتخابية قابلت تهمة استغلال الدين تهمة استغلال المال بين الطرفين .
وفي خضم هذا الصراع بين نظرتين مختلفتين، وهي من تداعيات الاحتلال العسكري خلال القرنين التاسع عشر والعشرين للبلاد العربية الإسلامية ومخلفاتها بعد جلاء هذا الاحتلال العسكري الذي عاد من جديد في هذا القرن، ومن تلك المخلفات إنابة المحتل المتحكم بعض أبناء الوطن عنه لتكريس الغزو الفكري من خلال نشر القناعة الحداثية ، قفي هذا الخضم يتعين على كل الأطراف في هذا الوطن بأقصى العالم العربي الإسلامي أن تكون صادقة مع نفسها في تقدير تضحياتها من أجله . وليس حب الوطن مجرد شعار تلوكه الألسنة بل هو عطاء وتضحية يترجمهما الواقع المعيش بشكل إجرائي ملموس . فمن دخل الصراع الانتخابي بنية استغلال الوطن، وهو أدرى بنفسه من غيره، والله عز وجل المطلع على خائنة الأعين وما تخفي الصدورحسيبه ورقيبه ، فإنه يخادع نفسه والله عز وجل خادعه . ومن تقاضى أجرا للقيام بواجب سواء كان برلمانيا أو موظفا ساميا أو عاديا ، فقصر في حق الواجب ، كان مقصرا في حق وطنه وشغبه ،وأمته ، وكان آكلا للسحت ، وأكل المال العام بدون وجه حق هو بمثابة أكل مال الأمة التي تنزل منزلة اليتيم ، ذلك أن اليتيم يكون عاجزا عن استرداد ماله كما تكون الأمة عاجزة عن ذلك حين تغيب الرقابة التي هي مسؤولية من يشرع لها ومن ينفذ وينزل ما شرع . ومن امتطى سيارة الأمة بميمها أو جيمها الحمراوين و التي تسير بوقود من مال مغصوب حين تتحرك لمصالح شخصية ،فإنه يدخر لنفسه وقودا يحرق به يوم القيامة في نار جهنم . ومن احتل سكنا في ملكية الأمة دون وجه حق، أسكنه الله عز وجل قعر الجحيم . ومن حصل على امتياز لا حق له فيه بسبب واجب عليه القيام به حرمه الله عز وجل من رحمته يوم القيامة . ومن صرف مالا لينال مقعدا في البرلمان أو ليحصل على وظيفة دون وجه حق، فهو ملعون لأنه راش ، ومن حصل على مال مقابل صوته فهو ملعون أيضا لأنه مرتش ،ومن كان وسيطا بينهما فهو ملعون كذالك لأنه رائش بينهما ،وكلهم ملعون في دين الله عز وجل . ومن استغل سلطة ليعين غيره على ما ليس له بحق كمقعد في البرلمان أو وظيفة، كان خائنا وخصيما للخائنين . ومن كذب على الأمة أو زور، فهو شاهد زور وهو من شرار الخلق يوم القيامة . ومن وقف متفرجا على الأمة ، و لم يهتم بأمور المسلمين، فليس منهم ، ومن كان كذلك كان شيطانا أخرس .
وأخيرا نختم بعبارة تاريخية توزن بالذهب، فاهت بها صحابية جليلة وقد نعي لها أولادها في جهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فظلت تسال ماذا فعل رسول الله، وكانت جازعة عليه أشد الجزع ،ولم يشغلها استشهاد أبنائها عنه ولا عن الانصراف الكامل عن غيره مقال الاطمئنان على سلامته . فمثل هذه العبارة هي التي تبرهن على حب المواطنين حكاما ومحكومين الحب الحقيقي لهذا الوطن . وما أحوجنا لهذه العبارة الدالة على الحب بالتضحية ، ويجب أن يكون لسان مقالنا وحالنا ماذا فعل الوطن في الشدة والضيق دون الالتفات إلى التضحيات، ودون المن على هذا الوطن الغالي بهذه التضحيات سواء كانت ضيق ذات يد أو شدة أو تقشف ، أو معاناة ،لأن من كان قبلنا استرخص أغلى ما يملك من أجل الوطن وجاد بالنفس ، فكيف يجود الآباء بالمهج، ويتخذ الأبناء الحجج لتبرير البخل بها مع المطالبة بالحقوق كاملة غير منقوصة وتعمد النقصان في الواجبات.لك الله يا وطني إن كان للمتنافسين على مقاعد برلمانك مصالح شخصية أو حزبية، وسوف يأتي الله عز وجل بقوم تحبهم ويحبونك.
وسوم: العدد 689