من أوجب الواجبات على الحكومة الجديدة مباشرة إصلاح المنظومة التربوية تفعيلا لا تنظيرا
اتخمت المنظومة التربوية المغربية بمشاريع الإصلاح النظرية : التي تراوجت بين عشرية ورباعية استعجالية، وخمس ـ عشرية مرتقبة . وقد جربت الفترة الزمنية الأولى للإصلاح ونصفها ، ويجرب الآن ثلاثة أضعافها ، وكأن الزمن هو المعول عليه في مشاريع الإصلاح . وليس من العدل والإنصاف والموضوعية أن يكون الحكم على فشل المنظومة التربوية عاما دون استثناء في مرحلة من مراحل إصلاحها ، والأقرب للموضوعية أن يقال فشلت هنا، ونجحت هنا ، وأن نسبة نجاحها كذا، ونسبة فشلها كذا ، ويكون الحكم في ذلك لأهل الاختصاص والخبرة ، ولا يكون مجرد أحكام صادرة عمن لا علاقة لهم بالمنظومة من الذين ينطبق عليهم الحديث النبوي الشريف : " إذا قال الرجل هلك الناس فهم أهلكهم " و لفظة " أهلكهم " ـ بضم الكاف ـ تبكيت لمن قال ذلك ،لأنه أول الهالكين ، أما ـ بفتح الكاف ـ فسخرية ممن قال ذلك إذ يعتقد وحده هلاك الناس وليس الأمر كما اعتقد بل خيل إليه . فكثيرا ما يكرر كثير من الناس عبارة : " أفلست أو ضاعت المنظومة التربوية وهم أفلسها " ـ بضم السين وفتحها ـ وكلامهم محض توهم ،بل من الناس من يكرر ما يسمع ولا يعي مما شيئا مما يقول . ولا يوجد على وجه الأرض بلد يزعم أن منظومته التربوية بلغت درجة الكمال ،بل كل بلدان العالم بما فيها المتقدمة تسعى جاهدة لتحسين منظوماتها التربوية باستمرار ، وتجرب أنواعا من الإصلاح حسب ما تسطره من أهداف وغايات تتوخاها منها. ولا عيب في تجريب محاولات الإصلاح ،بل العيب أن تتوقف المحاولات ، كما أن العيب في تنكب سبل الإصلاح الصحيحة مع تعدد المحاولات . ومن المعلوم أن أي قطاع مهما كان إذا حكم عليه بالفشل أو التعثر أو الإفلاس، كان ذلك حكما على العنصرالبشري الذي يشرف عليه ، لهذا حين نتحدث عن فشل إصلاح منظومتنا التربوية، فنحن نقصد فشل الذين تولوا هذا الإصلاح تنظيرا وتنزيلا . ومشكلتنا أننا في محاولاتنا إصلاح منظومتنا نعتقد دائما أن الخلل في مشاريع الإصلاح المقترحة والمجربة ، ولم يحدث قط أن فكرنا أن الخلل في الذين أوكل إليهم وضع المشاريع وتنزيلها . وغالبا من يحاط مشروع الإصلاح في البداية بهالة إشهارية كبرى، فيظن من يسمعها أنه الإصلاح الذي لا فساد بعده أبدا، لكن سرعان ما يحاط بهالة أخرى من النقد تنسف الهالة الإشهارية السابقة . والمفارقة العجيبة أن الذين يمتدحون مشروع الإصلاح بداية قد يكونون هم أنفسهم الذين ينتقدونه انتهاء ، ولا أحد ينتبه إلى ذلك . ولم يحدث أن تمت مساءلة أو محاسبة من كلفوا بوضع أو تنزيل مشاريع الإصلاح المحكوم بفشلها ، بل يحصر الفشل فيها ويقصر عليها . ومن المعلوم أن الأمم المحسوبة على الرقي والتقدم حين يقع الفشل والإخفاق في قطاع من قطاعاتها يبادر كبير المسؤولين عنه بتقديم استقالته اعترافا بفشله بكل روح رياضية ، واعتقادا منه أن غيره قادر على النجاح فيما فشل فيه هو . ومثل هذا السلوك الحضاري منعدم تماما في مجتمعاتنا العربية الإسلامية، ذلك أن المسؤول الفاشل قد يخرب البلاد ويهلك العباد، ولا يستقيل من منصبه، ولنا عبرة فيما يجري في سوريا ، وكان الأجدر بمن يحكمها وقد فشل أن يقدم استقالته منذ أول يوم تحرك فيه الشعب ضده حراكا سلميا قبل أن يصير مسلحا ودمويا .
واليوم ونحن نخطو الخطوة الثانية في مسار الديمقراطية التي نأمل أن تلحقنا بالدول الراسخة القدم فيها ، ونعود بالله من شر حاسد إذا حسد، وعيون الحساد فيها أعواد كما يقول المغاربة ، نأمل أن تفعل قاعدة استقالة أو إقالة من يكون مسؤولا عن فشل قطاع من القطاعات . وإذا كان الرأي العام الوطني يتبادل الحديث عن فشل منظومتنا التربوية ، وهذا الحكم تختلف مبرراته لدى الرأي العام، وإن تم الاقتناع بفشل هذه المنظومة، وتم الاتفاق حولها ،فالخلاف كبير حول مبررات الحكم بفشلها، ذلك أن البعض يحكم بفشلها انطلاقا من مصلحة خاصة ضيقة أو من استنتاج معين يصدر عنه حكم خاص يعمم ،وليس الأمر كذلك . والحكم على فشل أو نجاح المنظومة التربوية يكون باعتبار المصلحة العامة للوطن ،لا باعتبار مصالح خاصة بفئات أو أفراد . فإذا فشل ابني أو بنتي في الدراسة، فليس من المعقول أن أحكم على المنظومة بالفشل بسبب ذلك . وإذا لم يلج ابني أو بنتي معهدا أو جامعة إما بانعدام شرط من شروط الالتحاق أو بفشل في مباراة الولوج ،فلا يعقل أن تتحمل المنظومة التربوية مسؤولية ذلك . وإذا تقدم ابني أو بنتي لاجتياز مباراة ولم ينج ،كانت المنظومة هي السبب . فمع فشل بعض الأبناء والبنات ،يوجد من ينجح ، لهذا لا يستقيم الحكم على المنظومة التربوية انطلاقا من حالات خاصة ، سواء كانت فاشلة أم ناجحة بل الحكم الصحيح، هو أن ترعى المصلحة العامة . وطالما وجد في المجتمع موفقون وفاشلون، فالأمر جد عاد أما إذا عم الفشل، فحينئذ يكون في الأمر نظر . وليس من الصواب الحكم على فشل المنظومة بسبب اكتظاظ في تعريفه اختلاف بين من يهمهم الأمر ، وليس من الصواب الحكم على المنظومة بالفشل بسبب قلة مناصب الشغل ، وهو أمر تتحمل مسؤوليته مختلف القطاعات إذ ليس من الواجب على قطاع التربية أن يكون هو القطاع الوحيد الذي يجب عليه التشغيل ، أو هو الذي يجب أن يكون الأكثر تشغيلا من غيره، بل لا بد أن يكون التشغيل على قدر الحاجة إليه في كل القطاعات ، وقد لا يحتاج قطاع من القطاعات بما في ذلك قطاع التربية إلى من يشغله، فتشح مناصبه في فترة، وتكثر في أخرى حسب العرض والطلب ، وقوام ذلك حسن التخطيط لتفادي النقص أو الفائض أو الهدر ، ذلك أن للنقص والفائض تداعيات سلبية تؤثر في القطاعات . وقد تنحي القطاعات الخاصة باللائمة على قطاع التربية مع أنها لا تساهم في امتصاص من يعدهم ويكونهم القطاع في مختلف التخصصات . وبناء على ما سبق يجدر بالحكومة الجديدة أن تجعل من أوجب واجباتها إصلاح المنظومة التربوية إصلاحا فعليا إجرائيا مع تجنب اعتماد سياسة الإصلاحات النظرية الفاشلة ، وعلى رأس الإصلاح يأتي إصلاح العنصر البشري، ويكون هذا الإصلاح بالمساءلة والمحاسبة وبالتكوين ، وبالإقالة من المسؤولية عند الضرورة . وأول إصلاح للعنصر البشري يبدأ برأس الوزارة ،وهو الوزير الذي يجب أن يكون متشربا للتربية قد مارسها، وتمرس عليها، وكان أدرى وأعلم الناس بها . ولقد سجلت اختلالات قطاع التربية عندما صار أمره إلى من ليس بينهم وبين التربية صلة بسبب اختصاصاتهم إما الهندسية أو المالية أو غيرها . ولا يعقل أن يكون على رأس الوزارة وزير يصرح دون خجل أنه يحسن التعبير بلغة أجنبية ، وهو في أمس الحاجة إلى دروس في محو الأمية حين يتحدث باللغة الأم لغة الوطن . وهل يحق له أو يستطيع أن يحكم على مستوى اللغة الأم في المؤسسات التربوية وهو لا يعرف فعلها من فاعلها ؟ ولا يعقل أن يتولى التفتيش العام التربوي من لم يحمل حقيبة التفتيش التربوي ولم يمارسه أبدا ؟ ويقاس على هذا كل من قلد مهمة في قطاع التربية وهو لا يمت بصلة للتربية من قريب أو من بعيد . وهل يعقل أن يعكف المسؤولون عن التربية المركزيون، والجهويون ،والإقليميون على تدبير الشأن المالي والمادي مع إهمال تام للشأن التربوي الذي لا يعنيهم إلا مع حلول الامتحانات ،علما بأن الشأن المادي والمالي إنما وجد ليوظف في إنجاح الشأن التربوي ؟ فقد ينجح المسؤولون في توفير البنى التحتية المناسبة، ولكنهم لا يلقون بالا للعنصر البشري أو المضامين التربوية، فتصير تلك البنى التحية بلا جدوى . إن تمسك المسؤولين من المركز إلى الجهة والإقليم بالمناصب أو الكراسي مع اقتناعهم التام بقصورهم في تدبير شؤون المنظومة التربوية، يعتبر جريمة في حق المنظومة و في حق من تحتضنهم من فلذات الأكباد ، وخيانة عظمى للوطن والأمة وخيانة لله تعالى . ومن القول الشائع السائر سير المثل قولهم :" رحم الله من عرف قدره وجلس دونه" ،وذلك حتى لا يجلس حيث لا يجب أو لا يطيق أو لا ينبغي له . وعلى المسؤولين من المركز وإلى الجهة والإقليم ألا يعتمدوا عادة تحميل أعلاهم المسؤولية عن الفشل لأدناهم من أجل التملص من المسؤولية عند حصول الاختلال أو الفشل ، لأن المنظومة التربوية بمثابة سفينة تمخر عباب بحر زاخر كل من على ظهرها مسؤول إذا ما أصابها الغرق، فليس من الضروري أن يحاكم قبطانها وحاشيته المقربة من هم دونهم من صغار البحارة وغيرهم ، ويحملونهم مسؤولية غرقها . كيف يعقل أن يقع فشل في قطاع ما، ويحمل من على رأسه المسؤولية لمن دونه دون أن يكون كيسا فيدين نفسه قبل إدانة غيره . فالمسؤول الأعلى يكونمسؤولا بالضرورة عن فشل من يليه من المسؤولين إن كان للمنطق معنى . ومع شديد الأسف ألفنا أن نحكم على نتائج أبنائنا حين تكون ضعيفة بضعفهم دون أن يتحمل معهم أحد المسؤولية من مربين أوآباء أوغيرهم. ولقد قلت يوما لمدير أكاديمية سابق إذا جاءت نتيجة المتعلمين مخيبة للآمال فمن المفروض إيداع بطاقات إنذار أو إدانة في ملف المدرس، والمدير، والمفتش، والنائب ،ومدير الأكاديمية ،والمدير المركزي ، والكاتب العام للوزارة ،والوزير، وإذا تكررت الإنذارات أو الإدانات حددت حينئذ المسؤوليات، ووقعت المساءلة، والمتابعة ،والمحاسبة ، وبرأت ذمة من لا مسؤولية له أوأدين من يتحمل المسؤولية .
ولا بد من فريق عتيد يضم مجموعة من المختصين يعكفون على رصد إيجابيات وسلبيات المنظومة التربوية الحالية من خلال افتحاص المناهج والبرامج والمقررات الدراسية ومقاربات التدريس وأنماط التقويم ، وهذا شأن التربويين واختصاصهم ولكن دون إقحام غير المتخصصين في هذا الفريق من المتطفلين والفضوليين والانتهازيين الذين يسيل لعابهم للتعويضات والامتيازات التي توزع بمحسوبية وزبونية . ولقد مرت فرق بمسارات تقويم المنظومة التربوية، وفيها من لا يميز كوعا من بوع في التربية والديداكتيك، وهم من ذوي الألسنة الطويلة والسواعد المقصرة . ولقد تهافت البعض على الانخراط في مثل هذه الفرق تهافت الفراش على النار طمعا في التعويض والامتياز وتخريبا للمنظومة التربوية ، وتصرفوا بالغنائم، ولا من يسائلهم ولا من يحاسبهم ، وما استرد ما غلوا .
إن الرهان على التجربة الديمقراطية في بلادنا ،هو رهان عليها في كل القطاعات ،وعلى رأسها قطاع التربية ،وهو محور كل القطاعات ،وموردها من الطاقات البشرية والكفاءات . ومع شديد الأسف لا زالت الديمقراطية ممارسة غائبة في قطاع التربية ، ولا زالت الشمولية والاستبداد هما ما يطبع هذا القطاع . ولن تكتمل الديمقراطية في مجتمع ما ما لم تكن في منظومته التربوية . وقطاع التربية هو الذي يلقن الناشئة الديمقراطية، ليست النظرية، فقط بل التطبيقية . وإذا تشربت الناشئة الديمقراطية من خلال مناهج وبرامج ومقررات ومقاربات وطرق تقويم ،فإنها عندما تأخذ أدوراها في المجتمع تكون مؤهلة للممارسة الديمقراطية الحقة حيثما وجدت، فالذين يضعون الأشواك والعراقيل في طريق الديمقراطية قوم لم يتشربوها في تربيتهم ممارسة وليس تنظيرا فحسب . وعلى الحكومة الجديدة أن تبرهن على التزامها بالمسار الديمقراطي من خلال انتقاء وزير للتربية بطريقة ديمقراطية ، و يجب أن يكون مؤمنا بها، ويعتمدها أيضا في انتقاء الفريق العامل معه ، ويكون هذا الفريق متشبعا بها أيضا ، ويتولى بدوره اعتمادها أيضا في انتقاء من يرعى التربية جهويا وإقليميا الرعاية الحقيقية . ومن مقتضيات الديمقراطية المساءلة والمحاسبة المستمرة . فهل ستصغي الحكومة إلى هذا النصح المتواضع أم أنها ستصم الأذن عنه ، وتكرس الوضع الحالي للمنظومة التربية ، ويكون حالها كحال دار لقمان؟
وسوم: العدد 689