إجهاز وزارة التربية الوطنية على جهاز التفتيش هو إجهاز على المنظومة التربوية باعتبارها قاطرة التنمية
من المعلوم أنه لا تخلو منظومة من المنظومات التربوية في العالم من جهاز مراقبة يحرسها ويسهر عليها لتحقيق الغاية والهدف منها . وإذا ما كانت مختلف القطاعات لا يمكنها الاستغناء عن أجهزة مراقبة ، فإن قطاع التربية أكثر من غيره حاجة إلى جهاز مراقبة لأن الأمر يتعلق بتربية الناشئة التي هي رأسمال الأمة . ويخطىء البعض عندما يحاولون اختزال جهاز المراقبة في فعل المراقبة أو التفتيش لمجرد أن الوزارة الوصية أطلقت على هذا الجهاز اسم المراقبة أو التفتيش ، وهو لفظ يشير إلى مهمة واحدة من ضمن مهام متعدد لهذا الجهاز، والتي تنص عليها نصوص تشريعية وتنظيمية . ولا شك أن إطلاق كلمة مراقبة أو تفتيش على هذا الجهاز هو من باب إطلاق الجزء على الكل كما يقول علماء البلاغة . ومن المعلوم أن وجود أجهزة مراقبة أو تفتيش أو افتحاص في كل القطاعات يسبب قلقا للعاملين بها ، لهذا توجد حساسية ضد هذه الأجهزة خصوصا لدى الأطراف التي لا تؤدي المهام المنوطة بها وفق مقتضيات القطاعات التابعة لها. وقد يبالغ البعض في هذه الحساسية ، ويروج إشاعات على أجهزة المراقبة ،ويختلقها من أجل تبرير ما قد تسجله عليه من ملاحظات أو التمويه على ذلك . وهذا لا يعني أن أجهزة المراقبة معصومة من الأخطاء أو مطلقة اليد والسلطة لا يجب أن تخضع للمراقبة هي الأخرى . والمشرع يضع لكل جهاز مراقبة ضوابط لا يمكن اشتغاله خارج إطارها إلا أن البعض يتجاهل هذه الضوابط أو ينكرها من أجل إلصاق تهمة الشطط الملفقة بأجهزة المراقبة .
وإذا كان جهاز المراقبة التربوية هو حارس المنظومة التربوية ، فإن اختلالها وتعثرها مرتبط بفشل الجهاز الحارس لها . ومن المعلوم أن الإجماع منعقد على أن منظومتنا التربوية تسير منذ الاستقلال من تقهقر أو فشل إلى آخر ، ويشهد على ذلك مسلسل الإصلاحات المتتالية التي استغرقت وتستغرق فترات زمنية تنعت مرة بالعشرية ، وأخرى بالرباعية الاستعجالية ، ومرة ثالثة بالخمس ـ عشرية . ولو كانت المنظومة بخير لما توالت المشاريع الإصلاحية بهذه الوتيرة . وإذا ما اختلت منظومة من المنظومات ، فإن كل ما يمت إليها بصلة يصيبه الخلل . وجهاز المراقبة التربوية لم ينج من آثار الخلل اللاحق بمنظومتنا التربوية . ولقد لعبت الوزارة الوصية على قطاع التربية مع تعاقب الوزراء عليها دورا سلبيا في إفراغ جهاز المراقبة من دلالته ، وهو ما يعتبر إجهازا عليه لأن المتناوبين على هذه الوزارة وبإيعاز من عناصر تجذرت بالوزارة لعقود، و صارت لوبيا استولى فيها على صنع القرار ، و لعب دورا في ثني الوزراء عن الالتفات إلى جهاز المراقبة بل أكثر من ذلك كانت تقدم نفسها على أنها هي الحارس الوحيد للمنظومة التربوية ، وترى جهاز المراقبة منافسا لها في ذلك ، ولهذا كانت تعمل ما في وسعها لإقصائه ، والتقليل من أهمية دوره ، وتقديمه للوزراء على أن دوره ثانويا بل بلغ الأمر حد القول عند البعض أنه لا حاجة للمنظومة به ، وهو أمر تلقفه كل من تقلقه المراقبة ، وأشاعه عسى أن تقدم الوزارة على إلغاء المراقبة ووضع نهاية لجهازها . ولقد ظلت هيكلة الوزارة تضع المفتشية العامة التي من المفروض أن يكون جهاز المراقبة تابعا لها على الهامش حيث تتركز مهام تدبير المنظومة في المديريات المركزية التي تفرض وصايتها على المفتشية العامة والتي من المفروض أن تكون تابعة مباشرة للوزير باعتبار مهمة المراقبة التي يجب أن تشمل كل هياكل الوزارة . وأكثر من ذلك تعمد لوبي الوزارة الإجهاز على المفتشية العامة من خلال إسنادها إلى أشخاص لا ينتمون إلى الجهاز أصلا . ومن أشكال الإجهاز على هذا الجهاز اعتماد هذا اللوبي سياسة تجفيف منابع إمداده بالأطر . فبعدما كانت هذه المنابع تتمثل في تكليف أطر تربوية بممارسة مهام التأطير والمراقبة عند الضرورة ، وتنظيم مباراة لممارسة التأطير والمراقبة بشكل مباشر ، وتنظيم مباراة ولوج المركز الوطني لتكوين المفتشين ، عمل لوبي الوزارة على إيقاف التكليف والتفتيش المباشر ، ولم يقف الأمر عند هذا الحد بل تعطل المركز الوطني لتكوين المفتشين لأكثر من عقد من السنين، وكأن الوزارة كان لها خلال هذه المدة ما يكفيها من أطر المراقبة التربوية ،علما بأن واقع الحال هو عكس ذلك حيث ظل عددهم يتناقص باستمرار حتى أن بعض النيابات ظلت بلا جهاز مراقبة في كثير من التخصصات لسنوات، وذلك بعلم الوزارة دون أن تحرك ساكنا . ومن الإجهاز على جهاز المراقبة رفض مطلبا أساسيا ظل متشبثا به وهو مطلب الاستقلالية على غرار استقلالية القضاء . ومعلوم أن القضاء وهو جهاز مراقبة أيضا لا يمكن أن يؤدي وظيفته دون أن يكون مستقلا ، وكذلك الشأن بالنسبة لكل أجهزة المراقبة سواء كانت في قطاع التربية أو في غيرها من القطاعات . ورفض اللوبي الوزاري استقلالية جهاز المراقبة التربوية هو إجهاز عليه، وتعمد إقصائه والإصرار على ذلك ليطلق هذا اللوبي يده في تدبير شؤون المنظومة التربوية كما يشاء . ولم يدخر هذا اللوبي جهدا في الإيحاء لمن يمثلون الوزارة في الجهات والأقاليم بأنهم أوصياء أيضا على جهاز المراقبة من خلال استصدار نصوص تنص على أن أطر هذا الجهاز يعملون تحت سلطتهم، الشيء الذي أغرى هؤلاء بأطر جهاز المراقبة ، وجعلهم لا يعيرون اهتماما للدور الذي يقومون به في حراسة وحماية المنظومة التربوية ، وصار جهاز المراقبة التربوية خصما لهؤلاء لأنه يرصد أيضا ما قد يصدر عنهم من قرارات وتدابير تسهم في اختلال المنظومة بسبب سوء تدبيرهم . وكما يقصي لوبي الوزارة المركزي المفتشية العامة، ويفرض عليها وصايته ، يسير ممثلو الوزارة في الجهات والأقاليم على نهجه في التعامل مع جهاز التفتيش بنفس النهج في الإقصاء وفرض الوصاية . ومن أشكال الإجهاز على جهاز المراقبة أيضا سياسة إقصاء أطره من تولي مهام الإدارة الإقليمية والجهوية التي صارت تسند حتى لمن لا علاقة لهم بحقل التربية من الأطر التابعة لغير قطاع التربية ، علما بأن اللوبي المهيمن على الوزارة يوجد فيه من هذه العناصر الغريبة عن قطاع التربية التي تنظر إلى الأطر التربوية نظرة ازدراء واحتقار ،وترى نفسها مؤهلة لتسيير قطاع التربية ، ولا تريد الإقرار بفشلها في ذلك بل تحمل مسؤولية هذا الفشل للأطر التربوية من أجل التمويه على فشلها بل على تطفلها على قطاع يبرأ منها . ومما ساعد على إغراء اللوبي المتسلط على قطاع التربية بأطر المراقبة هؤلاء الأطر أنفسهم والذين أغروا هذا اللوبي بهم عن طريق تفرقهم الذي أذهب ريحهم ، فبعدما كانت تنتظمهم جمعية ثم نقابة مستقلة بعد ذلك، انتهى أمرهم إلى لا شيء ، لأن المسؤولين عن تسيير الجمعية سال لعاب بعضهم لمهام أغراهم بها اللوبي، فتنكروا لجهازهم ، وصاروا جزءا من هذا اللوبي ، كما أن المسؤولين عن تسيير النقابة تكالبوا على تحقيق مصالح فئوية، الشيء الذي فرق صف أطر المراقبة ، وأفقد الثقة في نقابة كان من المفروض أن تجعل نضالها منصبا على تحقيق مطلب الاستقلالية عوض المطالب الفئوية المكشوفة ، لأن بتحقيق استقلالية الجهاز تتحقق كل المطالب الأخرى مادية ومعنوية . ولقد صدق ظن اللوبي على جهاز المراقبة بسبب ممارسة الممثلين له نقابيا وجمعويا . ويعاني الجهاز اليوم نقصا كبيرا في أطره ،وذلك بعلم الوزارة بل بتدبيرها . وإن من شأن استرجاع الجهاز منابع إمداده بالأطر أن يحل مشكل نقص أطره الحاد ، فما المانع من تكليف أساتذة أكفاء بالتفتيش ، وهذا مكسب كان لهم من قبل ؟ وما المانع من تنظيم مباريات التفتيش المباشر، وهو مكسب أيضا كان لدى الجهاز ؟ وما المانع من تكوين مركز المفتشين الأعداد الكافية من أطر المراقبة ، وهو مكسب أيضا ؟
ومن الغريب أن يوجد مجلس أعلى للتعليم والذي يعتبر هيئة استشارية مستقلة وقوة تقييمية واقتراحية ، كما أنه فضاء للتفكير الاستراتيجي في كل القضايا الوطنية والسياسات العمومية والبرامج الإصلاحية التي تهم ميادين التربية والتكوين والبحث العلمي، ومع ذلك يغفل عن التفكير في رد الاعتبار لجهاز المراقبة الذي تم الإجهاز عليه بشكل صارخ. وعلى هذا المجلس أن يفكر في الجلوس مع أطر جهاز المراقبة والإنصات إليهم عوض الاقتصار على التواصل مع الوزارة . وعلى البقية من ذوي الضمائر الحية من الذين انتدبوا للدفاع عن مصالح جهاز المراقبة عبر الجهاز النقابي أن يصححوا مسار النقابة من خلال التخلص من العناصر الانتهازية التي تتخذ منها مطية لتحقيق مصالحهم الفئوية . وعلى الدماء الجديدة التي ضخت في جسد الجهاز أن تنتفض لكرامته ، وأن تقطع الطريق على من يحملون فيروس الانتهازية ، وأن تجعل مصلحة الجهاز، وهي مصلحة المنظومة التربوية فوق كل اعتبار. وأخيرا لن تقوم قائمة للمنظومة التربوية دون جهاز مراقبة عتيد لا يساوم ،ولا يتراجع عن حراستها لضمان إصلاحها وتطويرها ونجاحها وقيامها بالدور المنوط بها في التنمية باعتبارها قاطرة التنمية .
وسوم: العدد 696