أمّي الرّاهبة
لنا صديق كان من المواظبين على حضور ندوة اليوم السّابع الثّقافيّة المقدسيّة، انتقل إلى رحمة الله تعالى قبل بضعة شهور، ولصديقنا هذا قصّة حقيقيّة مؤثّرة، فهو من مواليد العام 1958، سقط وهو في الخامسة من عمره عن ظهر حمار، فتهشّم ساعد يده اليمنى، وأصيب بجراح وخدوش، في حين انتفخ ساعد يده اليسرى وصاحبته آلام حادّة. أحضر له ذووه "معالجا شعبيّا" كان يقوم بتجبير الأغنام التي تكسر إحدى قوائمها، فقام بفحص الطّفل، وقرّر أنّ يده اليمنى مكسورة وبحاجة إلى تجبير شعبيّ، وقام بتجبيره والطّفل يصرخ ألما، بعد ذلك ازدادت آلامه وكان "القيح يخرج من تحت الجبيرة، وهم يردّدون "الشّرّ بطلع" إلى أن أصبح ساعده تحت الجبيرة أسودا، فاصطحبوه إلى المستشفى الفرنسيّ عند باب الزّقاق في بيت لحم، وبعد الفحص والأشعّة تبيّن أنّ اليد اليمنى لم تكن مكسورة، لكن الجراح تعفّنت تحت الجبيرة وأصيبت اليد "بالغرغرينا" فقطعها الأطبّاء حتى الكوع لحماية البقيّة، في حين كانت اليد اليسرى مكسورة وشفيت وحدها دون علاج.
ونظرا للفقر والحاجة والجهل، تركه ذووه في المستشفى، ولم يعودوا يسألون عنه، فتبنّته راهبة تلحميّة متطوّعة للعمل في المستشفى، وأخذته معها إلى بيتها، وعلّمته في جامعة بيت لحم حتى حصل على شهادة الماجستير، وقامت بتشغيله مديرا لإحدى المدارس الخاصّة التي تشرف عليها مؤسّسة مسيحيّة.
وقبل بضعة سنوات تغيّب صديقنا عن إحدى جلسات النّدوة، وأخبرنا بأنّ والدته قد توفيّت، فعزّيناه بوفاتها وطلبنا لها الرّحمة. وبعد حوالي سنة من ذلك التّاريخ، تغيّب صاحبنا عن الندوة لأسبوعين، وجاء بعدها حزينا مطلقا ذقنه حدادا، فسألته عن حاله وسبب غيابه، فأجاب حزينا باكيا:
لقد ماتت أمّي!
فاستغربت ما قال وسألته: عفوا كم أمّا لك؟ فقد ماتت أمّك قبل حوالي عام؟
فسرد لي بلهجة حزينة وعينان باكيتان عن وفاة أمّه الرّاهبة، التي ربّته واعتنت به وعلّمته، وشغّلته، وزوّجته، وكيف كانت تأتيه بمعلم مسلم ليعلّمه الدّين الاسلامي، ويصطحبه معه إلى صلاة الجمعة، وأنّها كانت تدفع له أجرة مقابل ذلك. فنشأ صديقنا متديّنا يصلي ويصوم. وممّا قاله: لقد شعرت باليتم الحقيقيّ عندما توفيّت أمّي الرّاهبة.
وهذه القصّة الحقيقيّة اثبات ساطع على الأخوّة المسيحيّة الاسلاميّة، وأنّنا شعب واحد متكافل، فالرّحمة لروح تلك الرّاهبة الانسانة، ولروح ابنها بالتّبني صديقنا المسلم.
وكل عام وأنتم بخير"وعلى الأرض السّلام وفي النّاس المسرّة."
وسوم: العدد 700