في نقل السفارة الأميركية إلى القدس
حين تستمع إلى الكم الهائل من تصريحات ومقابلات المسؤولين في السلطة الفلسطينية بشأن تعهد الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، بنقل سفارة بلاده إلى القدس، والتهديد بالويل والثبور وعظائم الأمور إذا ما نُقلت فعلاً، تُصاب بدهشة كبيرة. ليس اعتراضًا على التصريحات التي تكاد بمجموعها أن تشكّل برنامجًا نضاليًا كفيلًا، إذا طُبّق جزءٌ منه، ولم يخضع للمساومات والتنازلات المعتادة، أن يمنع نقل السفارة، بل وأن يدحر الاحتلال عن الأرض الفلسطينية؛ بل استغرابًا من عدم العمل بها على الأيام والسنين.
لعلّنا نأمل أن تكون قضية نقل السفارة قد رفعت الغشاوة المزمنة عن أعينهم، وجعلتهم يدركون فجأة وبدون مقدّمات، أن بجعبتهم كمّاً من الأسلحة والبرامج النضالية والخطط الاستراتيجية التي إن نُفّذت ستمنع ترامب من تنفيذ تهديداته، من دون أن ندري أو يفسرون لنا سبب إخفائها عنا في الماضي، وعدم إخراجها إلى النور، على الرغم من تراجع مسيرة سلامهم المزعوم، وتغوّل الاستيطان، حتى كاد يبتلع كل الأرض الفلسطينية خارج التجمعات السكّانية الكبرى، وبقاء الاحتلال على كل فلسطين، وسط محاولاته المستمرة لتطبيع علاقاته مع بعض الأنظمة العربية.
يعتبر القادة إياهم أنّ نقل السفارة اعتداءٌ سافِرٌ على الحقّ الفلسطيني، ولا يجوز أن يمرّ. ومن أجل ذلك، يدعون إلى مؤتمرات قمة عربية وإسلامية وإفريقية، لحشد الجهد وإفشال المساعي الترامبية. فيلوّحون بعزمهم، أخيرًا، الانضمام إلى المنظمات الدولية، ومنها 16 منظمة، طالما سمعنا عن نية تقديم طلبات الانضمام إليها، قبل أن يكشف محضر الاجتماعات الفلسطيني الأميركي التي عُقدت في واشنطن أنّ ثمة تعهدًا فلسطينيًا قدّمه الرئيس محمود عباس للإدارة الأميركية بالامتناع عن تقديم مثل هذه الطلبات. كما يتكرّر التهديد بتقديم طلب إحالة بشأن الاستيطان إلى محكمة الجنايات الدولية. وعلى الرغم من أن الاستيطان، في ظلّ اتفاق أوسلو ومفاوضات السلام، قد وصل إلى أعلى معدّلاته غير المسبوقة (نحو 800 ألف مستوطن) فإن السلطة لم تجرؤ بعد على تقديم مثل هذه الشكوى.
ثمّة تهديدات أخرى بالعزم على تنفيذ قرارات المجلس المركزي الفلسطيني الخاصة بإعادة
النظر في العلاقات السياسية والاقتصادية والأمنية (التنسيق الأمني) مع دولة الاحتلال، وسحب الاعتراف بدولة إسرائيل، والانتقال من السلطة إلى الدولة؛ أي إعلان الدولة الفلسطينية من طرف واحد. والسؤال الذي يتبادر إلى الذهن هنا هو ما علاقة تنفيذ قرارات المجلس المركزي (أعلى سلطة رقابية في غياب المجلس الوطني) بتهديدات ترامب؟ ولماذا لم تُحترم هذه القرارات؟ بل أيضًا، كيف يستقيم أنّ المجلس المركزي يتخذ قراراً بوقف التنسيق الأمني، ثم يخرج علينا كبار المسؤولين بمقولة إن التنسيق الأمني مصلحة فلسطينية بالأساس! وإذا كان ذلك، فلِمَ نعود إلى التهديد بوقفه ردًا على نقل السفارة؟
ثمّة حديث آخر عن واجب الدول والشعوب العربية والإسلامية، والعالمَين المسلم والمسيحي، في التصدي لنقل السفارة، مذكّرين بأنّ القدس مهد السيد المسيح ومسرى النبي محمد؛ وأنّها بذلك ليست ملكًا للفلسطينيين فحسب. لذا، على العرب أن ينتهوا من صراعاتهم الداخلية وحروبهم الأهلية، ويعيدوا إلى مدينة القدس مكانتها قضيةً مركزية للأمة. كذلك على الأحزاب والنقابات أن تبادر لتشكيل اللجان الوطنية لمناهضة نقل السفارة الأميركية إلى القدس، أسوة باللجنة الفلسطينية التي شُكّلت. ودعوة هذه اللجان إلى اتخاذ موقف من وجود السفارات والقواعد الأميركية في بلدانها، في ما لو نقلت سفارة أميركا إلى القدس.
يترادف ذلك كلّه مع حديثٍ خجولٍ عن تعزيز الحَراك الشعبي في الأرض المحتلة، من دون أيّ تفاصيل أو برامج، ما ينبئ بعجز هذه القوى عن قيادة أي حراك أو توجيهه، ربما بانتظار غضبة جماهيرية قد تحدث نتيجة نقل السفارة ليركبوا موجتها.
كما أسلفت مقدّمة هذا المقال، ما قيل وما سيُقال يُشكّل برنامجًا ثوريًا كافيًا لمنع نقل السفارة. وفي حال الاستمرار به، قد يُشكّل، في الوقت نفسه، برنامجًا قادرًا على دحر الاحتلال. لكن
مشكلتنا تكمن في نقطتين؛ الأولى أنّ مثل هذا البرنامج ينبغي العمل به، وبمختلف بنوده منذ أمد طويل، إذ نقل السفارة الأميركية إلى القدس تفصيل صغير، على أهميته، من تفاصيل الاحتلال والاستيطان الكثيرة، وهو فرعٌ لهذا الاحتلال، وليس جذرًا له. وعلينا أن نُطبّق برامجنا النضالية لاجتثاث الجذر فيموت الفرع. والثانية، أنّ الصيغة العامة لهذه التصريحات تحمل في داخلها نوايا كبرى للمقايضة، ولا تُشكّل برنامجًا حقيقيًا للنضال، فنحن لن نطبّق قرارات المجلس المركزي، أو ننضم إلى المنظمات الدولية، أو نشكو إلى محكمة الجنايات، إلّا إذا نُقلت السفارة. وإذا لم تُنقل، تبقى هذه الملفات حبيسة الأدراج. وبهذا، نضع على كاهل الشعب الفلسطيني وأمته العربية قيدًا جديدًا يتمثّل بربط هذا الحَراك وهذه القرارات بعملية النقل، كما هو حاصل حاليًا؛ إذ تجهض مجمل التحرّكات الفلسطينية بحجّة الحفاظ على المفاوضات، أو الأمل باستئنافها. وهنا، يصبح التهديد بنقل السفارة قيدًا على أيّ تحرّك فلسطيني، وفق المنظور السياسي للقيادة الفلسطينية.
علّق رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، بعد مؤتمر باريس الذي لم يُسفر سوى عن الدعوة إلى استئناف المفاوضات الثنائية المباشرة، بأنّ بيان المؤتمر من لغة الأمس، مبشّرًا الإسرائيليين بلغة جديدة (في إشارة إلى عهد ترامب)، في حين تنتظر السلطة الفلسطينية سياسة إدارته الجديدة وسط حيرة شديدة.
حال القيادة الفلسطينية يلخّصها تعليقٌ للأب مانويل مسلّم، عبر سرده قصة تراثيةً، مفادها بأن صيادًا وكلابه كانوا يطاردون ثعلبًا، نظر الثعلب إلى حطابٍ، وطلب منه المساعدة في إيجاد مكانٍ يختبئ فيه، فأرشده إلى كوخه القريب، سأل الصياد الحطاب عن الثعلب، فقال إنّه لا يعرف، لكنه كان يشير بيديه إلى الكوخ، إلا أن الصياد لم ينتبه إلى إشارة اليدين، وغادر المكان. خرج الثعلب مسرعًا، ولم يعر الحطاب أيّ اهتمام، فناداه الحطاب قائلا: "أنت، يا ناكر الجميل، ذهبت ولم تشكرني! أنا الذي نجّاك من الموت". فأجابه الثعلب: "كان عليّ أن أشكرك، لو كانت أفعالك مثل أقوالك، ولم تخن يدك لسانك". التنسيق الأمني والسلطة الفلسطينية الحطاب، والصياد وكلابه دولة الاحتلال والمستوطنين، والثعلب الفلسطيني المقاوم للاحتلال، والمُنجّي هو الله وتياسة الاحتلال.
وسوم: العدد 704