العيش على الدم
في الطريق الى أستانة، سالت نفسي كملايين السوريين: ما هذا الإصرار الروسي على سحب بقايا نظام بشار الأسد ومعارضته إلى ذلك المكان الجليدي، وروسيا الضامن لما سمّته “وقف إطلاق النار” لا يعرف من /وقف القتل والدمار والإجرام/ إلا إسمه؟”. من السهل القول إن ما لم تتمكن روسيا فعله بالحرب تريد إنجازه في السياسة؛ ولكن أليس التركيز على الشق العسكري في أستانة فصل جديد من الحرب الروسية في سورية؟ فلو أرادت روسيا مقاربة سياسية للمسألة السورية فعلاً، لكانت وضعت زخماً في مسار جنيف وانخرطت سياسياً بما لديها مع مجتمع دولي يرى في جنيف المسار الصح لحل سياسي في سورية.
اتضح لي ولكثيرين أن روسيا لا تريد لمؤتمر جنيف- الذي اخترعه غيرها- أن ينجح؛ ولا تريد لأستانة- الذي اخترعته هي ذاتها- أن ينجح. تدرك روسيا مؤكداً أنه مهما قويت المحاولات للتملص أو الهروب من عبارة” انتقال سياسي” التي تنسف مشروعها في إنقاذ مَن تدخلت إحتلالياً وارتكبت ما يرقى إلى جرائم حرب لإنقاذه.
صعب التخلص من جنيف لأن قوة أعدائها وبعض أصدقائها وراءه، ولأن قوة حق الشعب السوري يتعذر سحقها. من أجل ذلك، لم يبق تكتيك إلا واستخدمته موسكو ابتداءً من الأرض المحروقة مروراً بالخبث الإيراني وبتتفيه جهود الآخرين بما في ذلك الأمم المتحدة وصولا إلى التظاهر بدور الوسيط والضامن. معروف أنها تذرعت بداية بحرب داعش؛ دبّجت دعوة مما سمته “حكومة شرعية” في دمشق؛ استخدمت جشع إيران؛ غطّت بفيتوهاتها جرائم حرب النظام، فارتكبت مثلها ولم تعبأ؛ وأخيراً بعد حربها العالمية على حلب ولملمة الأمور مع تركيا قررت فتح دكان أسمته جنيف ليكون بديلاً لجنيف. فتحت مسار “أستانة” ودعت إليه مَن كانت تسميهم إرهابيين بالأمس. نصّبت من نفسها ضامناً لـ”النظام” الذي تحميه، ومن تركيا ضامناً لـ”إرهابيي” الأمس. وقّعت في الثلاثين من دسمبر/كانون أول 2016 وقفاً لإطلاق النار؛ وفي اليوم الثالث من رئاسة أمريكية جديدة، استعجلت فتح محطة أستانة بمهرجان أضافت إليه إيران كـ”ضامن”؛ وهي تعرف أنه إن كان هناك مِن معرقل أو عائق حقيقي لوقف إطلاق النار في سورية، يكون هذا “الضامن” الجديد. أخرجت بياناً وقّعه الضامنون الثلاثة، وغاب عن التوقيع “نظام الأسد” والثائرون ضده.
تلقى الثوار رزمة من الوعود في تثبيت وقف إطلاق النار، ولكن شيئاً من ذلك لم يحدث. وإمعاناً في محاولة حرف مسار جنيف، سلّم الروس رزمة من الأوراق سمّوها دستوراً فرحين ومنتشين ومراهنين على ضعف الثوار؛ وإذ به يرتد إلى وجهها صفعة وفضيحة سياسية.
بدأ التلاعب بالوعود. انتظر الثوار جواباً في السادس من فبراير/شباط بتثبيت وقف إطلاق النار. شيْ من هذا لم يحدث. أتى الجواب بدعوة لأستانة 2 في الخامش والسادس عشر من الشهر ذاته؛ وموعد الأمم النتحدة لجنيف على بعد أيام؛ والأمل أن يجمّد جليد أستانة تنفس جنيف. وفي الأثناء ازدادت الحرائق في الساحة السورية المنظرة وقف إطلاق النار وارتفع منسوب الخروقات… وكل ذلك من أجل قتل جنيف الذي تعرض لصواريخ من أنواع جديدة تتعلق بتركيبة الوفد المعارض من خلال تفقيس المنصات وتأجيل المواعيد والوعود وصولاً إلى استنفار القوات على الأرض لنسف المشروع برمته.
يأتي أستانة 2 بعد يوم من موعده. ذهبنا حتى لا نحقق لمن يريد نسفه أيضاً الذريعة لفعلته. اعتبرنا ذلك معركة أشرس من أي معركة تُخاض. لحقنا الكذاب إلى الباب. الروسي بلباسه المدني ولبوسه التفاوضي وفي ملعبه الخبيث لعبنا بقواعدنا لا حسب خبث أساليبه التي لا بد أن الإيرانيين رسموا الكثير منها. أربع ساعات من تبيان الحقائق والفضائح والإرتكابات للضامن ومن يضمنهم. وصل ممثلوا بوتين للإحساس وكأنهم في محاكمة. مرات ومرات كرروا أنهم لا يتمسكوا ولا يدافعوا عن الأسد؛ أقروا بارتكابات النظام وميليشياته وداعميه. وصلنا إلى اشتراط دخولنا القاعة تعهداً مكتوباً من وفد بوتين. عبّر عن تعذر ذلك لأنه يحتاج إلى تواص مع وزير دفاعه ورئيسه. شهدنا عليه نائب وزير خارجية كازخستان والإعلان عن ذلك في كلمته الافتتاحية؛ وفعل؛ وبذا حددنا ضامناً للضامن. وكنا نعرف عبثية كل ذلك؛ فالأجندة الروسية واضحة لنا؛ عبث وتخريب للوقت والدم لإنجاز حل لملفاتها الأساس.
ويبقى السؤال: لماذا تفعل موسكو ذلك؟ إنها تعلم أن “نظام الأسد بجيبها الصغير؛ تبيعه متى شاءت؛ تستخدمه وتستنزفه كيفما أرادت؛ تتفهه أو تثعلي من شأنه متى أرادت؛ وكل ذلك بانتظار السعر الأعلى. تدرك موسكو أيضاً أن إيران شريك مضارب؛ تستخدمها كقوة قتل ميدانية؛ وتعرف حاجة إيران لذلك الغطاء الجوي، والغطاء السياسي (من هنا دفاع لافروف عن إرهاب إيران). ولكن موسكو جاهزة لبيع الملالي عندما يبدأ تفعيل القصاص الأمريكي الحقيقي.
موسكو تعمل عملها التخريبي مطمئنة: تركيا مع فصائل الشمال، والأردن مع فصائل الجنوب. تعد بتثبيت وقف إطلاق النار؛ تسعى تكتيكياً. إذا فشل كل ذلك- وهي تسعى له- تطلق مشروعها البديل بما تبقى من عسكر النظام، تعطي الحصة التي تريد لإيران؛ تشكّل مجلساً عسكرياً بعد بيع رأس النظام، الذي أضحى عبئاً عليها وعلى الجميع، وتعيد الدكتاتورية، مسترشدة بالتجربة المصرية السيسية والليبية الحفترية، طاوية بذلك حقبة الأسد. مشروعها هذا ينتكس بإصرار أمريكا على مناطق آمنة، وبانزياح تركي إلى الضفة الأمريكية. ولكن يبقى السؤال الأصعب: هل ينجح ترامب بما لم يتضح تماماً بعد؟ ينجح إن أتى بمشروع لا يجعز موسكو وإنما يحد من قوتها وتغولها أو حتى حركتها في سورية. وهنا قد يجبر موسكو بالاتجاه الانتحاري نحو إيران؛ ولكن الجواب الشافي يبقى في أدراج تل أبيب. وتبقى أبواب الأرواح والدماء السورية مفتوحة على المجهول إلى أن تشبع إسرائيل من دمنا أو يغيب هذا الذي يعيش عليه.
وسوم: العدد 708