صاعقة الرواتب
خطأ كبير أن ننظر إلى صاعقة الرواتب التي ضربت غزة بحسبانها صاعقة مفاجئة خارجة عن سياق الأحداث التي عاشها المشروع الوطني الفلسطيني منذ توقيع أوسلو في سبتمبر 1993 وبدء تنفيذه في مايو 1994 .
الصاعقة نتيجة طبيعية منطقية لمؤديات ذلك الاتفاق الذي صمم لإزاحة عبء الاحتلال وضرر رداءة سمعته دوليا عن إسرائيل بالإيهام بأن الفلسطينيين صاروا يحكمون أنفسهم ، وبأن الضفة وغزة ليستا محتلتين ، بل متنازعا عليهما ، وأن هذا التنازع سيحسم بالمفاوضات .
ولم تحسمه المفاوضات حتى اليوم ، فوصل المشروع الوطني الفلسطيني إلى مآل مغلق ؛ ففي ظروف تطبيق الاتفاق ، لم تقم حياة سياسية فلسطينية سليمة تسمح في الأقل بتداول إدارة شئون الضفة وغزة بيد فصيل فلسطيني آخر سوى فتح التي تعد هي الموقع الحقيقي لاتفاق أوسلو الذي وقع رسميا باسم منظمة التحرير الفلسطينية، ومن ثم لم تمكن شروط الاتفاق حماس من تولي تلك الإدارة بعد نجاحها في انتخابات تشريعي 2006 ، فانفجرت الخلافات بينها وبين فتح حتى وقع الانقسام في 2007 .
وفي الاقتصاد ، قيدت اتفاقية باريس المتولدة عن اتفاق أوسلو الاقتصاد الفلسطيني الضعيف بالاقتصاد الإسرائيلي القوي تقييد تبعية لم تيسر له استقلالا تنمويا ، ولم تنشىء السلطة الفلسطينية أي مصنع ، ولم تسمح البيئة القانونية والسيادية في الضفة وغزة بأي استثمارات فيهما من الخارج .
وكل ذلك منع ظهور اقتصاد إنتاجي فلسطيني ، وفي مقابله ، صنعت السلطة اقتصاد موظفين مستهلكين بترهل وظيفي واسع اعتمدت في توفير رواتبه على المنح الخارجية المسيسة ، وأموال المقاصة التي تدفعها إسرائيل لها من الضرائب التي تأخذها على الواردات الفلسطينية وفق اتفاقية الغلاف التجاري بين الطرفين . ما سبق ما كان ليؤدي إلا إلى مآل مغلق في السياسة والاقتصاد وسائر مجالات الحياة المتفاعلة حتما مع السياسة والاقتصاد.
وأخفقت عشر سنوات من المفاوضات المعززة بالوساطات العربية والدولية بين فتح وحماس في إزالة الانقسام ؛ لأنه كان نتيجة طبيعية لآثار اتفاق أوسلو المعيب في جانبه الفلسطيني .
وفي ظل تداعيات هذا الجو المـتأزم انفجرت صاعقة الرواتب ضد غزة . وكان تبريرها مما سمي تضليلا حكومة الوفاق ، حكومة الحمد الله ، زائفالا يختلف عن التبريرات المعتادة الزائفة التي أدمنتها السلطة الفلسطينية في حراكها السياسي وسواه من الحراكات الفاشلة التي تقدم عليها. وكتب الكثير وقيل الكثير في إبانة ذلك الزيف الذي لا يحتاج لإبانة لفرط وضوحه ، والذي برر خفض رواتب موظفي غزة بأزمة السلطة المالية.
وموجز إبانة ذلك الزيف في التساؤل : لم أصابت الأزمة المالية موظفي غزة ال62 ألفا واستثنت موظفي الضفة 103آلاف ؟! ولأن غزة مقصودة به فإنه أصاب الموظفين الغزيين العاملين في الضفة في أجهزة السلطة الأمنية والمدنية على قلتهم. وهو مثلما قلنا توكيد وتجسيد للمآل المنغلق الذي انتهى إليه المشروع الوطني الفلسطيني بسبب اتفاق أوسلو ، وتدرك قيادة السلطة الفتحاوية حقيقة هذا الانغلاق، ومختصره :
أولا : لا أمل تماما في قيام دولة فلسطينية في الضفة وغزة . سياسة إسرائيل الحقيقية ترى في هذه الدولة خطرا مصيريا مهما كانت ضعيفة مقيدة السيادة محدودة الصلاحيات.
ثانيا : حماس لن تقبل تحت أي ظرف عودة الأمور في غزة إلى ما كانت عليه قبل الانقسام . في غزة الآن واقع مختلف كليا صنعته سنوات الانقسام العشر، وأبرزه وأعقده إشكالا الجانب العسكري متجسدا في كتائب القسام التي لا يسمح اتفاق أوسلو بوجودها .
ثالثا : السلطة نفسها تغيرت كثيرا ، واشتدت قسوتها وشراستها في التعامل مع معارضيها ومع من يقاوم الاحتلال ، وقطعا غزة لن تقبل بسلطة بهذه الصفات وإلا لقبلت بها سابقا حين كانت أقل سوءا مما هي الآن .
رابعا : إسرائيل وبعض الدول العربية لن تقبل بأي حل توافقي ولو في حدود ضيقة بين فتح وحماس .
وهكذا ، مدفوعةً بتأثير ما سبق ، اتخذت السلطة في رام الله خطوة تخفيض رواتب موظفي غزة التابعين لها ، وتهدد باتخاذ خطوات أخرى .إنها تريد ان تهرب بجلدها من خسارة مراهنتها على اتفاق أوسلو الذي توشك إسرائيل وأميركا وبعض الدول العربية المسماة دول الاعتدال على تجاوزه بسلام إقليمي على حساب الفلسطينيين ، وتريد السلطة تمهيدا لدخولها في هذا السلام أن تنسب فشل أوسلو في تحقيق أي إنجاز للمشروع الوطني الفلسطيني لحماس وغزة ، ويؤكد ما نذهب إليه أن السلطة أخطرت بخفض رواتب موظفي غزة الدول التي تراها معنية به ، وما كانت لتقدم عليه إلا برضاها ، ونعني إسرائيل وأميركا والأردن والسعودية ومصر .
وسوم: العدد 716