وقف مخصصات ذوي الشهداء والأسرى الفلسطينيين "تجريم " لمقاومة الاحتلال
لا تتهاون إسرائيل في جدية عداوتها للشعب الفلسطيني ، ولكنها تعرف متى تهدىء من جدية هذه العداوة ظاهريا ، ومتى تتشدد فيها عمليا دون أن تحيد عن الغاية الأصيلة من هذه العداوة ، وهي القضاء على هذا الشعب جغرافيا وإنسانيا وحضاريا لنظرها لوجوده بصفته نفيا ونقيضا لوجودها . ووفق هذه المنهجية ، ما سكتت مؤقتا عنه أمس لا تسكت عنه اليوم . طوال 23 عاما ، أي بعد أوسلو ، والسلطة الفلسطينية تدفع مخصصات شهرية للأسرى الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية ، ولأسر شهداء مقاومة الاحتلال . ولم تتحرك إسرائيل رسميا بقوة ضد سلوك السلطة هذا . لم تكن الأحوال تسمح بهذا التحرك . الآن ، وبعد ضعف السلطة بمؤثر الانقسام الذي دام عشر سنوات ، وبمؤثرات الوضع العربي المنهار ، تحركت ضد هذا السلوك للسلطة . والأدق ، أن تحركها بدأ ، ولكن بهدوء ، منذ عام ، حين أجبرت السلطة على إلغاء وزارة الأسرى ونقل اختصاصها إلى لجنة شئون الأسرى في منظمة التحرير الفلسطينية . نفذت السلطة ما طلب منها دون التفات للاحتجاجات الشعبية والفصائلية الفلسطينية التي اعتبرت إلغاء الوزارة تقليلا من قضية الأسرى والشهداء وإضعافا لمنزلتهم في الثقافة الفلسطينية التي تجل مقاومي الاحتلال . إسرائيل الآن تمادت أكثر . إنها تطلب الوقف الكلي لهذه المخصصات ، وتهدد في حال عدم وقفها باقتطاع قيمتها البالغة 300 مليون دولار سنويا من أموال الضرائب ( المقاصة ) التي تجبيها لحساب السلطة على الواردات الفلسطينية من الخارج ومن إسرائيل . وتسوغ طلبها بأن السلطة تدفع هذه الأموال ل" مخربين " خارجين عن مقتضيات اتفاق أوسلو الذي يمنع الفلسطينيين من استعمال القوة المسلحة في الخلاف معها . وأكثر مما سبق ، تهدد السلطة بسن قانون يجرم دفع المخصصات المالية للأسرى وذوي الشهداء ، بل تحث الكونجرس الأميركي على اتخاذ خطوة مماثلة ؛ لأن أميركا تسهم في ميزانية السلطة ب 200 مليون دولار سنويا . والمعلوم أن المبعوث الأميركي للشرق الأوسط جيسون جرينبلات طلب الشهر الماضي من السلطة الفلسطينية وقف هذه المخصصات ، وجعلها شرطا لتجديد المفاوضات بينها وبين إسرائيل . الموقف الإسرائيلي في هذه المسألة ، والمدعوم مطلقا بالتأييد الأميركي ، يستهدف في جوهره " تجريم " المقاومة الفلسطينية للاحتلال ، وحشر الفلسطينيين في زاوية الاكتفاء بالمفاوضات لاستخلاص بعض ما تبقى من حقوقهم ، ولإسرائيل في هذه المفاوضات اليد العليا ، وليس للفلسطينيين سوى القبول مجبرين بالفتات الذي ترميه لهم هي حسبما يوافق مصالحها ومطامعها الجشعة .
من أوقع الفلسطينيين في هذا الدرك الذي لا يبدو من آثاره القاتلة مخرج ؟! إنها السياسة الخرقاء في التفرد بالقرار ، والتصرف انطلاقا من المصلحة الفردية والفئوية ، وصم الأذنين عن رأي الشعب ، والتعامي عن الحقائق الأساسية للصراع بيننا وبين إسرائيل ، ولبه أنه صراع وجود بين طرفين على أرض واحدة ، وأن الطرف الزاعم لملكية هذه الأرض زورا وباطلا لا يرى له أملا في الوجود الموصول ما دام المالك الحقيقي لها قادرا على الحراك والتنفس . وقطعا لن تتوقف مطالب إسرائيل المصحوبة بالتهديدات عند وقف دفع مخصصات ذوي الشهداء والأسرى . في جعبتها الكثير من المطالب ما دام الهدف هو القضاء على الشعب الفلسطيني جغرافيا وحضارة وإنسانا ، وكل خطوة لها وقت يلائمها ويجعلها ناجحة نافذة ؛ لأن الطرف الفلسطيني ممثلا في السلطة الضعيفة المشلولة التي لم يبق منها سوى لسانها بتهديداته اليائسة حينا بترك كل شيء ، وتوسلاته الضارعة أحيانا للوصول لأي حل بمظلة دولية ؛ يجد نفسه أمام أي خطوة إسرائيلية أعزل بلا سلاح فعال بعد أن نبذ في أوسلو السلاح الحقيقي لمقاومة أي عدوان ، واعتمد على سلاح مفلول عقيم اختاره عدوه : سلاح المفاوضات التي لا تنتهي ، وإذا انتهت فبما تريده إسرائيل .