دخول القوات العراقية لمدينة كركوك هل تمثل نهاية النهاية؟
مركز المستقبل للدراسات الستراتيجية
عرضنا في مقالات سابقة ملامح مشروع خطير أريد منه تفكيك الدولة العراقية إلى عدة دويلات أو ما يعرف بمشروع (نهاية العراق) كما سماه بيتر غالبريث، فهل تمثل دخول القوات العسكرية العراقية إلى مدينة كركوك إنهاء لمخاطر مشروع نهاية العراق عبر تجزئة خارطته الجغرافية؟ ورسمها من جديد على شكل كانتونات قائمة على أسس قومية وطائفية بعد إصرار الحزب الديمقراطي الكُردستاني بزعامة السيد مسعود برزاني؟، وأطراف أخرى بالمضي بخيار الإستفتاء وتشجيع أطراف سياسية في الوقت ذاته أيضا بأن يرفع شعار إقليم السُنة.
وبدأت ملامح مشروع نهاية العراق في هذه الفترة تقترب كما أراد أصحابها، حيث انطلقت هذه المحاولات في مشروع التفكيك للعراق من التبرير الآتي "إن شأن العراق المكون من ثلاثة دويلات (في إشارته إلى الكُرد والشيعة والسُنة) أن ينحل" ويُزيد بيتر غالبريث وقاحةً وتجاهلاً لشعور ملايين العراقيين عندما يذكر: "لن يكون هناك ما يدعو إلى الحزن إزاء زواله". ويستنتج أيضا من شبه المؤكد أن أستقلال كُردستان هو مجرد مسألة وقت، فمن وجهة نظره لا يقل حق أكراد العراق في الإستقلال عن الكروات، ويرجح بيتر أن الفاصل ما بين الكُرد وما أسماه بالعراق العربي بات في المستقبل القريب من جهة، وقد لا يكون هناك فصل ثلاثي، (وليس الفصل الثلاثي إلى كُردستان ودولة سُنية ودولة شيعية من جهة أخرى)، لكن بيتر يعد التقسيم الثلاثي حلاً سياسياً لكل من كُردستان والجنوب الشيعي والوسط العربي السُني لكونه يحول ما تم بالفعل إلى وضع رسمي بالتقسيم هو الذي جعل كُردستان مستقرة وحقق نسبيا الشيء ذاته في الجنوب ويراه (حلاً ينسجم مع الدستور وليس حلاً مفروضا).
يأتي هذا التصور الخاطئ من قبل بيتر غالبريث المتهم بتلقي الرشى والحصول على المزيد من كابونات النفط لتفكيك الدولة العراقية على أسس قومية وطائفية لتحقيق أهداف عديدة منها تكوين كنتونات قائمة قومية وطائفة يسهل اختراقها في ظل صراع الأجندات، يسميها بيتر غالبريث دول، إذ يرى أن قيام تلك الدويلات هو حلاً سياسياً لإنعدام الإستقرار في العراق، وقد غاب عن ذهن بيتر أن الأزمات التي تعاني منها الدول كاضطراب الأثنيات القومية والطائفية وغياب المواطنة قد لا تنتهي بالتقسيم فقط، هذا إذا صدق بيتر غالبريث في إفتراضه، وإنما هناك حلول أجدى بكثير منها، إقرار العقد الإجتماعي (الدستور) المبني على أسس المواطنة وحقوق الإنسان، وقد لا يكون التقسيم حلا ناجحا كما ثبت في عدد من التجارب الإنفصالية.
إلا أن غالبريث بقى متحمساً ومشجعاً لفكرة تفكيك الدولة العراقية مع كل ما مرت به مناطق غرب وشمال العراق من رعب الجماعات الإرهابية وسطوة النزعة الدكتاتورية في إقليم كُردستان والتخوف من إستمرار هيمنتها في أي تطور سياسي مستقبلي لكُردستان، حيث عمل بيتر غالبريث على تكرار دعوته لفكرة الإستفتاء وهو ما تحقق له عندما أقر ذلك في 25/أيلول من هذا العام قائلاً: "إستقلال كُردستان أمر حتمي وسيتحقق بالتأكيد"، مضيفاً: "بالنسبة لكُردستان فإن الخطر يكمن في البقاء مع العراق لا في الإستقلال".
متجاوزاً التحذيرات الدولية للكُرد من مغبة الإنفصال خاصة من قبل مجلس الأمن الدولي والولايات المتحدة الأمريكية إضافةً إلى الرفض الإقليمي (التركي ــ الإيراني) الذي شكل تعضيداً للخطوات التي إتخذتها الحكومة العراقية تجاه حكومة الإقليم ومنها، إستعمال ورقة الضغوط الإقتصادية التي قد يتعرض لها الإقليم من جراء السياسات التي قد تتبعها دول الإقليم والحكومة العراقية الإتحادية حيث تكمن الخطورة في إدخال الإقليم مع حكومات هذه الدول في دومة من الأزمات وبؤرة جديدة للصراع خاصة إذ ما شعرت الولايات المتحدة فعلاً بأن تحذيراتها لم تأخذ بالحسبان من قبل قيادة الإقليم وهذا ما بدا واضحا حتى في ليلة دخول القوات العراقية إلى مدينة كركوك وتصريح الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بعد ذلك بقليل من أن الولايات المتحدة الأمريكية تقف على الحياد في مسألة النزاع ما بين بغداد والإقليم.
وعليه تكللت جهود الحكومة العراقية التي وصفت بالعقلانية بدخول القوات العسكرية العراقية إلى مدينة كركوك والمناطق المتنازع عليها بالنجاح ودون إزهاق للأرواح، بعدما استولت القوات الكُردية على المناطق المذكورة منذ سقوط النظام الإستبدادي السابق، وتعززت سيطرتها أكثر أثناء إجتياح تنظيم داعش لمدن غرب وشمال العراق وبعد التحرير، وقيام ما يشبه الكيان المستقل عن العراق.
من هنا يمكن قراءة أهمية أعادة القوات العسكرية الإتحادية سيطرتها على مدينة كركوك، وأفول مشروع نهاية العراق، ومخاطره الجسيمة لأن سيطرة القوات العسكرية تشكل نقطة تحول يمكن لنا أن نذكر أبرز نتائجها عبر النقاط الآتية:
1- بعد عملية دخول القوات العسكرية العراقية إلى مدينة كركوك ومناطق أخرى من الموصل وديالى، يتقدم مشروع الدولة العراقية على مستوى الرأي العام الداخلي والدولي على حساب تراجع مشاريع تفكيكها أو نهايتها إلى دويلات قومية وطائفية على مستوى رغبة بعض القوى السياسية كتلك التي قرر مسعود برزاني في إتخاذها بالإنفصال عن العراق الذي تجاهل التحذيرات الإقليمية والدولية والمعارضة الشديدة من لدن السلطات الإتحادية في العراق، وإمتعاض قوى كُردية عديدة من توقيت الإستفتاء، إذ شكلت هذه المواقف عنصراً حاسم في عملية دخول القوات العسكرية العراقية إلى مدينة كركوك والمناطق المتنازع عليها وبالتالي قد ساهمت إلى حدا كبير بتحقيق الإنتصار على مشروع تفكيك الدولة العراقية.
2- إن عملية دخول القوات العسكرية العراقية المشتركة إلى مدينة كركوك والمناطق الخاضعة لقوات البيشمركة، لا تكمن أهيمتها في إنهاء شرعية الإستفتاء من الناحية الشعبية وأمام الرأي الدولي فقط، وإنما بإعادة هذه المدينة لسلطات الدولة الاتحادية، وفشل مشروع ضم هذه المدينة إلى كانتون يحكم بطريقة العوائل، وتجعل هذه العملية السلطة التنفيذية الإتحادية أيضا في وضع مركز القوي في حواراته المستقبلية مع إقليم كُردستان ولكن ليس باعتباره كيانا يمتلك شرعية الإنفصال مثلما كان يريد مسعود برزاني قبل دخول القوات العراقية لمدينة كركوك، وإنما كون الإقليم جزء فيدراليا من العراق ووفق السياقات الدستورية.
3- فشل مشروع نهاية العراق كأحد الأجندة التي أريد تنفيذها عبر بعض القوى السياسية وشخصيات قومية وطائفية نافذة لأسباب عديدة منها، أولاً: لتراجع حدة التوتر الطائفي بالرغم من محاولات الحزب الديمقراطي الكُردستاني ومسعود برزاني إذكاءها عبر الخطاب التحريضي في محاولة منه لتخويف القوى السُنية من أن العراق دولة طائفية ويحكم من قبل الشيعة فقط، وحث هذه القوى في السعي على غرار ما قام به الكُرد.
ثانياً: الإنتصارات التي حققتها القوات العراقية على تنظيم داعش، وتحرير كامل الأراضي العراقية من سيطرة التنظيم الإرهابي.
ثالثاً: الإنفتاح الدولي والعربي على العراق وهو ما يصب في تحقيق ثنائية (الإستقرار السياسي، ووحدة الدولة العراقية).
رابعاً: الإنقسام الكُردي ـ الكُردي والتوجس من الشروع بتحويل الإقليم إلى دويلة تحكم بطريقة دكتاتورية ـ عائلية إضافةً إلى مؤشرات الفساد، وسرقة قوت الشعب من قبل القوى النافذة في أربيل كما نوه رئيس الوزراء العراقي أكثر من مرة، وهو ما جعل قوى وشخصيات كُردية تفكر بأن البقاء مع خيار العراق كدولة واحدة أفضل بكثير من الإنفصال، وقيام كيان كُردي مستقل عن العراق بمستقبل تحفه المخاطر الإقتصادية، والنزعة الإستبدادية والفساد على المستوى الداخلي، وفرض العقوبات، وربما الحرب من قبل الجوار الإقليمي. وإذا ما زال خطر مشروع نهاية العراق فأن التحدي الأكبر يتمثل بالقضاء على مبرراته السياسية، والقومية، والطائفية، من هنا لابد من العمل المهني على إرساء قيم دولة المواطنة الحقيقية في العراق.
وسوم: العدد 754