ألفيتُ منزلَها بوجهي موصدا=ما كان أقربه إليَّ و أبعدا
كلَّت يداي على الرتاج، و عربدتْ=في سمعِيَ المشدوهِ قهقهة الصدى
ما كنتُ أحسبُ أن أطوفَ به على=غصص النوى و أعودَ عنه مُجهدا
فكم اختزلتُ حدودَ دنيانا على=أعتابه و كم اختصرتُ به المدى
ما بالها تصغي؟ – و أحلف إِنها=تصغي – و تأبى أن تردَّ على النّدا؟
أَخَبَتْ نجومي في مدار لحاظها؟=فتساوت الدنيا لديها مورِدا ؟
ليست بأول بدعة أوجدتُها=و أضعتُها عبر الضلالة و الهدى
و حملتها ذكرى و لم أُرْخِصْ لها= عهداً ، أَأَشقى عهدُها أم أسعدا؟
الذكرياتُ .. قطافُ ما غرستْ يدي=كَفِلَ الحنينُ بقاءَها و تعهَّدا
هي كل زادي هوَّنَتْ صعبَ السُّرى=و رمتْ على قدميّ غطرسةَ الردى
كم نعمةٍ شمخَتْ عليَّ فهِجتُها=و شربْتُ نزفَ جراحها مُسْتَبْرِدا
وكم استخفَّ بيَ الهوى فصلبتُه=و ركعتُ تحت صليبه متعبدا
و تقاتلتْ فيَّ الظنونُ و طابَ لي= في حالتيها أن أُذَمَّ و أُحمَدا
جئتُ الحياةَ فما رأتنيَ زاهداً= في خوض غمرتها .. و لا مترددا
إني فرضتُ على الليالي ملعبي= و أبيتُ أن أمشي عليه مُقيَّدا
يا غربتي .. كم ليلةٍ قطّعتُها= نِضوَ الهموم على يديك مُسَهَّدا
أطمعتِني في كل حلم مترف=و ضربتِ لي في كل أفق موعِدا
فوقفتُ أقتبلُ الرياحَ و ما درتْ=من كان منا العاصفَ المتمردا
و مضيتُ .. أنتعلُ الغمام و ربما=أشفقتُ خدَّ النجم أن يتجعدا
و أطلتُ في التّيه المُشتِّ تنقلي=و حملتُ ما أبلاه فيَّ و جدَّدا
ورجعت أستسقي السراب لسروة=نسيتْ لياليها حكايات الندى
فكأنما المجد الذي خلدتُه=لم يكفني فأردتُ مجداً أخلدا
ما أكرم الوتر الذي أسكتهُ=لأجُرَّ أنفاسي عليه تنهُّدا
كم سلسلت فيه الشموخَ أناملي=و رمتْ به سمعَ الزمان فردَّدا
خلع الفتونَ على الشجون وصانها=من أن تهون ترجُّعاً و توجُّدا
أهفو إليه و ما يزال غبارُه=متجمعاً في صدره متلبدا
أفديه بالباقي من السلوى إذا=أرجعتُه ذاك اليتيمَ المفردا
يا غربتي أشجاكِ طول تلفُّتي=صوب الديار تهالكاً و تجلدا
أتَعِبتِ من نظري إليكِ معاتباً؟=و مللتِ من صخبي عليكِ مندِّدا؟
ذاك التجنِّي لم تطيقي حمله=مني، و لم تتوقعي أن ينفدا
أطلقتِني .. و تبعتِني .. و أريتِني= ملءَ الدروب خيالكِ المتوددا
أنا عند ظنكِ سادر في موطني=أزجي خطايَ على ثراهُ مشرَّدا
و أغضُّ من طرفي حياءً كلما=عدَّدْتُ أعراسي عليه، و عدَّدَا
أيامَ تستبق الرجالُ نداءه=و أشقُّ موكبَهم فتيَّاً أمردا
و بناتُ كلِّ عجيبةٍ، مجلوةٌ=رصداً على هضباته متوعدا
كم علَّمَتْنِي أن تدوسَ جباهَهَا=قدمي، وكم علمتها أن تحقدا
لعبتْ ببرد صبايَ بين جراحه=فالتفَّ حول ثخينِهِنَّ، و ضمَّدا
تأبى البنوَّةُ أن أقول وهبتُه=و تركت كل هبات غيري حُسَّدا
أَأَمُرُّ منه و صاحبايَ كهولتي=و العنفوانُ، و لا يمدُّ لنا يدا ؟
أنا ما شكوت على اللقاء صدودَه=عني، متى صدَّ الكريمُ تعمُّدا ؟
تلك الذوائبُ من لِدَاتي دونه=رمحٌ تكسَّرَ أو حسامٌ أُغمدا
أخذتْ بناصيتيه أيدي عصبةٍ=كانت على سود الليالي هجَّدا
جاز الزمانُ بها حدود مجونه=فأقام منها كلَّ عبدٍ سيِّدا
تشقى العلى إن قيلَ كانت جندَها=ما كان للجبناءِ أن تتجندا
نظرتْ إلى شرف الجهاد فراعَها=فسعتْ إلى تعهيره، فاستشهدا
من كلِّ منْفضِّ السبيلِ، لقيطِهِ=شاءت به الأحقادُ أن تتجسّدا
عقد الجفونَ بذيل كل سماوةٍ=و أراد ملعبَها كسيحاً مقعدا
العاجزُ المقهورُ أقتَلُ حيلةً=و أذلُّ منطلَقاً، و أنذلُ مقصِدا
نشر الخسيس من السلاح أمامه=و اختار منه أخسه، و تقلَّدا
و حبا إلى حرم الرجال، و لم يذُقْ=من قُدسِ خمرتهم و لكنْ عربدا
و افتَنَّ في تزييف ما هتفوا به=و ارتدَّ بالقِيَمِ الغوالي مُنْشدا
البغيُ أروع ما يكون مظفراً= إن سُلَّ باسم المكرمات مهنَّدا
لا يخدعنَّكَ دمعُه و انظر إلى=ما سال فوق أكفه، و تجمَّدا
لم تشربِ الحُمَّى دماءَ صريعِها=إلا و تكسو وجنتيه تورُّدا
و أزاحت الأيام عنه نقابه=فأطلَّ مسْخاً بالضلال مزوِّدا
ترك الحصون إلى العدى متعثراً=بفراره، وأتى الحِمَى مُسْتأسدا
سكِّينه في شدقه و لعابُه=يجري على ذكر الفريسة مُزبدا
ما كان هولاكو، و لا أشباهه=بأضلَّ أفئدةً و أقسى أكبُدا
هذي (حماة) عروسةُ الوادي على=كِبْر الحداد، تُجيل طرفاً أرمدا
هذا صلاح الدين يخفي جرحه=عنها، و يسأل : كيف جُرْحُ (أبي الفدا)
سرواتُ دنيا الفتح هانتْ عنده=و أصاب منها ما أقام و أقعدا
ما عفَّ عن قذف المعابد باللظى=فتناثرت رِمماً، و أجَّتْ موقدا
كم سُجدٍ لله فاجأهم، و ما=كانوا لغير الله يوماً سُجّدا
عرَفَتْهمُ الجُلَّى أَهِلَّة غارة=و غزاةَ ميدانٍ، و سادة منتدى
يا شامُ .. ما كذب العِيانُ، و ربما=شهق الخيالُ أمامه، و ترددا
أرأيتِ كيف اغتيل جيشُك و انطوت=بالغدر رايةُ كل أروعَ أصيدا؟
و انفضَّ موكب كل نسر لو رأى=لِعُلاكِ ورداً في النجوم لأوردا
من للبقايا من تراث غاضب=في القدسِ؟ من يسعى إليها مُنجدا؟
درجتْ عليها الغاشياتُ و لم تدع=فيها بناءً للشموس مشيّدا
روَّتْ بأقداح المسيح غليلها=و رمت بها، و هوت تُذرِّي المزودا
لمن الخيام على العراء تزاحمت=و كست مناكبَه وِشاحاً أسودا ؟
مرت بها غُبْرُ السنين و لم تزل=نصباً على جرح الكرامة شُهَّدا
شابتْ بنات اليتم في أحضانها=و رجاؤهنَّ كشملهن تبددا
و من الخليج إلى المحيط عمومةٌ=و خؤولة طابت و عزَّتْ مَحِتدا
وقفت تشد على الجراح و كِبرُها=يرنو إلى الشرف الذبيح مصفَّدا
و الحاكمون .. الثأر راح مفرِّقاً= ما بينهم، و العار جاء موحِّدا
كم ملعب للتضحيات تواعدوا=أن يقطعوه شائكاً و مُعبَّدا
حتى إذا الخطب استحرَّ تواكلوا=و تهالكوا فوق الأرائك أعبُدا
و تأنقوا في ستر ذلِّ خنوعهم=فجلَوْهُ نهجاً بالدَّهاء مؤيدا
أنا لم أكن يا شام أعرف فيهمُ الـ=ندْبَ العيوفَ و لا النجيد المسعدا
ترفُ الحياةِ .. ذليلهُ و رخيصُهُ=نادى على حرماتهم أن تُورَدا
و نزا على أحلامهم فتهوَّدت= وسرى إلى سلطانهم، فتهودا
يا شام .. أوجعُ من وجومك زفرةٌ= داريتُها، و أردتُها أن تخمدا
زخرتْ بما ادّخرت منايَ إلى غدٍ=إني أخاف أرى مصارعها غدا
لا يا عروس الدهر سفرُكِ ما روت=صفحاتُهُ إلا العلى و السؤددا
كم دون هيكلك الموشَّى بالسنى=من طامعٍ أُردي و طاغٍ أُلحدا
وكم انثنت عنك الخطوب حَيِيَّةً=ويداكِ ما انتهتا، وكبْرُك ما ابتدا
جمدتْ عيونُ الشرق من سهرٍ على=ميعادِ وثبتكِ الجموحِ على العِدا