في البيت العتيق
د.عودة أبو عودة
أستاذ الدراسات اللغوية
جامعة العلوم الإسلامية العالمية
مدخل:
في يوم الخميس الثاني من شهر ذي الحجة من عام 1430ه، الموافق للتاسع عشر من شهر تشرين الثاني من عام 2009م، توجّهتُ إلى الديار الحجازية لأداء فريضة الحج. وقد علم بذلك أخي وصديقي الشاعر الكبير، الدكتور حسن الأمراني، من المغرب الشقيق، ويعمل في جامعة الشارقة بدولة الإمارات العربية المتحدة، فأرسل إلي – في يوم عرفة- رسالة قصيرة على الهاتف قال فيها:
يا من غدا ببحار النور يغتسل وقلبه حول بيت الله يبتهل
فأجبته برسالة قصيرة على الهاتف – أيضاً- في ثلاثة أبيات، قلت فيها:
يا من همى دمعه إذ شفَّه الأمل لما غدا حول بيت الله يبتهل
أهل الشفاعة عند الله شأنهمُ بإذنه شفعوا يا طيب ما سألوا
رجوتهم أن يضمّوني لمجلسهمْ في واحة القرب علّ الروح تكتحل
ثم إذا هو يتصل بي، عبر الهاتف، يقول: إن الأبيات أثارت وجدانه، وحرّكت مشاعره، وأنه سيقول قصيدة من وحي المناسبة، فقلت له: إذن، أعارض قصيدتك إن شاء الله، ونسمي هذه القصائد "في البيت العتيق".
وعندما عدت إلى عمان – الأردن العزيز – سرعان ما أرسل إليّ عبر البريد الإلكتروني، قصيدة رائعة، مطلعها:
هل يسعف الروحَ ما يوحى به الأمل أم يدركُ النفسَ دون المبتغى الأجل
وبي من الشوق ما لو شامه جبل لانهدّ مما يلاقى في الهوى الجبل
وقد سعدت بهذه القصيدة، وقرأتها عدة مرات، وحاولت أن أعارضها – بالمعنى الأدبي للمعارضة- وبعد معاناة شهر أو يزيد، كانت هذه القصيدة:
في البيت العتيق
رفقاً بعينيك منها الدمع فالنفس هائمةٌ والقلب طاف بها ها أنت ذا في فناء البيت تلمسه لبّيكَ يا رب كان الحج لي أملاً ماذا وقوفي أمام البيت أرمقه يطّوّفون وفي الوجدان سُؤْلهُمُ أنا القريب، قريبٌ من نفوسهُمُ ماذا وقوفيَ مشدوهاً أراقبهُمْ ألقيت نفسيَ في بحر الطواف وقد يا رب جئتك مكروباً ومعتذراً آمين يا رب، هب لي كل ما طلبوا جاءوك من كل فج يحملون هوى لئن تَرَحّل أقوام لغايتهمْ حلّوا ببيتك لا يبغون عنه قِلىً عن جيرة الله لم يطّلَّبوا حِوَلاً حاشا لفضلك: أضيافٌ وليس قرىً طافوا ببيتك، صلّوا فيه، واستبقوا غرقت في حُبّ رب البيت أذكره (إذا نسيم من البيت العتيق سرى) بيت عتيق تهزُّ الروحَ هَيْبَتُهُ كموجة في جموع الخلق طفت به دنوت للحجر الغالي أقبّله لكنْ نسائمُ خير الخلق قد غَمَرَتْ حشرت نفسيَ بين الخلق معتصَراً وقفت موقفه، قبّلْت مَبْسِمَهُ والروح والقلب والأعطاف راجفةٌ يا لائمي في رسول الله معذرةً بل جئت تسعى بِودّ نحو خيمته الحب في شرعه من فيض رحمته حب تنافس فيه القوم واستبقوا قومي، وحب رسول الله مذهبهمْ جعلت نفسي وروحي في ركابهمُ هم الأحبة لا يشقى جليسهمُ هل يركبون؟ فصفوُ الروح مركبهم لمّا تنكبت الأخلافُ سيرتهمْ واستبدلوا الكفر بالإيمان وانزلقوا وأغرقوا الناس بالآراء مصدرُها واحسرتا لأناس ضلّ سعيهمُ وازّينت لهم الدنيا بزخرفها تفرقوا فَهَوَوْا عن عَرش مجدهمُ تفرقوا وتعادوْا بعدُ واختصموا وألبسوا الحقّ أفكاراً مُزيفةً لكنّ شِرْعَةَ دين الله باقيةٌ بها استنارت قلوب الخلق وانتصرت عودوا إلى ضَوْء أنوار بذي سَلَمٍ عودوا إلى القبة الخضراء واغترفوا المصطَفَوْنَ بحبِ الله نبعُ هدىً يا سيدي يا رسول الله قدوتُنا قومي كرامٌ وإنْ نَدّتْ بهم هِنَةٌ قومي ذووا الحق، أهلُ الخير ما فتئوا ها هم أُولاءِ يطوفونَ الوداعَ وهُمْ يدعونني لوَداع البيت محتسباً يا رب عفوك مالي عن حماك غنىً فهل سبيلٌ إلى البيت العتيقِ، فما هَلْ عودةٌ يا إلهي نحو بيتكمُ | ينهمللما أناخت بباب الكعبة واحرَّ قلبك ملهوف ومنفعل تذوب في قربه وجداً وتشتعل وقد تحقق لي من فضلك الأمل والناس حوليَ بالتطواف قد شغلوا والله أَسْأَلَهُمْ من قبل ما سألوا فليستجيبوا، فعندي النهل والعَلَل والناس كالموج ضاقت عنهم السّبُلُ وجدت نفسي بدفع الموج أنتقل علّي بطهر دعاء الخلق أغتسل طمعت في الفضل حتى شاقني النّفَلُ فهمْ ضيوفك ما حلّوا وما ارتحلوا لا يرحلون، فقلب الصبّ معتقل فليس عن جيرة الرحمن مُعْتَزَلُ وليس عندهمُ عطف ولا بَدَلُ قِراهُمُ سَتر ما ضلّوا وما جهلوا إلى الحطيم فبكّاءٌ ومبتهلُ والموج يحملُني والقلب مرتحل هاجت بيَ الروح والأسبابُ والعلل زانته بالعتق تلك الأعصرُ الأُوَلُ لله نفسي ما تصبو وما تئل فَدَفّعوني، فما أدنو وما أصل هذا المكان، فيا شوقاه: ما العملُ وفاض وجدي وكان الوصل والوَجَلُ والدمع تذرفه من وجدها المقل والنفس ترقص نشوى هزها الجذل لو عِشْتَ سيرتَهُ ما كان ذا العَذَلُ يرقى بروحك فيه العلمُ والعمل حُبّ بروح رسول الله متصل وضاق عن شرحه التفصيل والجُمَلُ على هُداه فلا ريب ولا زَلَل (فليس لي مَعْدِلٌ عنهم وإن عَدَلوا) بقربهمْ حيث حَلّ الركبُ أو رحلوا (أو ينزلون فإنّا معشر نُزُلُ) تلعّبت بهم الأقوام والدّول في حمأة الطين لا خوف ولا خجلُ مذاهب الزيف يُفتيهم بها هُبَلُ وهم يظنون أن الخير ما فعلوا وغرّهم في هواها الزور والخطل فشأنُهُمْ عند كل الناس مُبتَذَلُ فالقوم مُؤْتكِلٌ مِنْهمْ وَمُتّكِلُ أفنى شبابهُمُ التفريعُ والجدلُ بها تنزّلت الأملاك والرسل مناهجُ النورِ، لمّا ضاقت الحِيَلُ فالشملُ مُكتملٌ فيها ومعتدل فالخير مكتنز فيها ومُتّصل ما إِنْ تحقق فينا القولُ والعملُ وعزُنا بك مضروبٌ به المثلُ لكن مَعْدِنَهُمْ بالخير مشتمل (هم الأحبةِ إن جاروا وإن عَدَلوا) يستأخرونَ لهم في طَوْفهِمْ مَهَلُ (وهل تُطيق وداعاً أيها الرجل) لكنَّ قوميَ شدّوا العيرَ وارتحلوا أرويتُ نفسي؛ فإني عاشقٌ ثملُ تأتيه مسرعة من وجدها الإبلُ | الإبل