الغابة

د. محمد علي الرباوي

الغابة (1)

د. محمد علي الرباوي

[email protected]

(اَلَّلهُمَّ بِنُورِكَ يَا فَتَّاحُ أَصُولُ

وَبِجَاهِكَ يَا رَزَّاقُ أَجُولُ

وَبِأَمْرِكَ يَا مَوْلاَيَ أَسِيرُ

أَسْأَلُكَ الْبِرَّ

وَأَسْأَلُكَ التَّقْوَى

فِي إِبْحَارِي هَذَا

بَيْنَ جَزَائِرِ ذَاتِي،

وَمِنَ الشِّعْرِ الْمُتأجِّجِ عِشْقاً

مَا تَرْضَى.

اَللَّهُمَّ عَلَيَّ أَنَا

هَوِّنْ هَذَا الصَّمْتَ الصَّاخِبَ فِي بَيْدَاءِ حَيَاتِي

وَٱطْوِ لِقَلْبِي هَذَا البُعْدَ الْمُمْتَدَّ

مِنَ الزَّمَنِ الْمُبْتَلِّ إِلَى الزَّمَنِ الآتِي

مَنْ غَيْرُكَ يَصْحَبُنِي فِي سَفَرِي

مَنْ غَيْرُكَ يَخْلُفُنِي فِي أَهْلِي

ويُدَثِّرُنِي بِمَحَبَّتِهِ البَيْضَاءِ وَيَرْعَانِي

حِينَ تَشُقُّ سَوَاحِلَ عَيْنَيَّ مَفَاتِنُ هَذِي الغَابَهْ

مَنْ غَيْرُكَ يَحْفَظُنِي مِنْ سِحْرِ غَلاَئِلِهَا الْخَلاَّبَهْ)

****

بَدَا وَمَا زَالَ الْعَيَاءُ يَمْتَطِي

عَيْنَيَّ مِنْ نَافِذَةِ القِطَارْ

وَجْهُ الصَّبَاحِ

وَهْوَ يُخْفِي الْجَوْهَرَ الوَهَّاجَ

مَا بَيْنَ الرَّوَابِي وَالبِطَاحِ

لَحْظةً أَوْ لَحْظَتَيْنِ

ثُمَّ يَأْتِي جِهَةَ الْمَدِينَةِ الغُبَارْ

يُسْلِمُنِي القِطَارُ لِلشَّوَارِعِ الْكَبِيرَهْ

تَصِيرُ بَيْنَ غَابَةِ الإِسْمَنْتِ قَامَتِي..

تَصِيرُ قَامَتِي قَصِيرَةً..قَصِيرَهْ..

****

(رَبَّ السَّمَاوَاتِ وَمَا أَظْلَلْنْ

رَبَّ البِحَارِ الْهُوجِ..

رَبَّ الأَرَضِينَ رَبَّ مَا أَقْلَلْنْ

رَبَّ الرِّيَاحِ رَبَّ مَا أَذْرَيْنْ

أَسْأَلُكَ ﭐللَّهُمَّ خَيْرَ هَذِهِ البَلْدَهْ

أَسْأَلُكَ ﭐللَّهُمَّ خَيْرَ أَهْلِهَا..

وَخَيْرَ مَا فِيهَا

أَعُوذُ، رَبِّي، بِكَ مِنْ أَشْجَارِهَا أَشْرَارِهَا

وَشَرِّهاَ وَشَرِّ مَا فِيهَا)

****

فِي هَذِهِ الْمَدِينَهْ

تَسْقُطُ نَخْلَةٌ عَلَى الطَّرِيقِ

لاَ أَحَدٌ يَشْعُرُ بِالنَّخْلَةِ

وَهْيَ تَهْجُرُ الْجُذُورْ

****

(...)

تَسْقُطُ طِفْلَةٌ مُبْتَلَّةٌ عَلَى الرَّصِيفْ

مَرَّ بِهَا الشِّتَاءُ وَالعَذَابُ وَالْخَرِيفْ

مَرَّ بِهَا السَّحَابُ وَالرَّصَاصُ وَالغُبَارْ

مَرَّ بِهَا الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ

وَالصِّغَارُ وَالكِبَارْ

فَوَاحِدٌ عَيْنَاهُ تَعْبُرَانِ جَمْرَ الْجَسَدِ النَّحِيفْ

وَوَاحِدٌ يَسْرِقُ نَظْرَةً

وَيُخْفِي وَجْهَهُ فِي صَفْحَةِ الْجَرِيدَهْ

وَوَاحِدٌ يَتْفُِلُ قُدَّامَ ظِلاَلِ حُلْمِهَا الْمَحْرُوقْ

وَرُبَّمَا حَدَّثَ جَوْفَهُ الْمُصَابَ

بِالْخَرَابِ وَالتُّرَابِ وَالصَّدَى

فَقَالَ فِي هُدُوءْ:

"لَعَلَّهَا هِيَ الَّتِي

خَبَّأهَا الزَّمَانُ فِي الصُّنْدُوقْ

وَعِطْرُهَا ظَلَّ يَفُوحُ عَارِياً فِي السُّوقْ

مُشَيِّداً فِي هَذِهِ التُّخُومْ

قَرْيَتَهُ سَدُومْ"

"لَعَلَّهَا هِيَ الَّتِي أَلْقَتْ بِشَهْوَةِ النَّدَى

إِلَى الذِّئَابْ"

"لَعَلَّها..لَعَلَّها.."

لَكِنَّ وَاحِداً مِنَ الرِّجَالْ

وَهْو يَجُرُّ خُفْيَةً هَيْكَلَهُ العَظْمِيَّ

حِينَمَا تَسَلَّقَتْ طُيُورُ حُزْنِهَا

شَغَافَ قَلْبِهِ الشَّجِيِّ قَالْ:

"لَعَلَّهَا

مِنْ قَرْيَةٍ تَأْكُلُ حِينَمَا تَجُوعُ أَهْلَهَا

لَعَلَّهَا هِيَ الَّتِي

ضَيَّعَهَا هَذَا الزَّمَانْ

فَانْتَشَرَتْ وَٱنْتَثََرَتْ أَشْلاؤُهَا

بَيْنَ العِمَارَاتِ وَفِي كُلِّ مَكَانْ

لَعَلَّهَا..لَعَلَّهَا.."

****

فِي هَذِهِ الْمَدِينَةِ اليَبَابْ

تَسْقُطُ طِفْلَةٌ..

تَسْقُطُ نَخْلَةٌ..

وَيَنْتَشِي التُّرَابْ

****

مَرِيرَةٌ هِيَ الْحَيَاةُ هَاهُنَا مَرِيرَةٌ هِيَ الْحَيَاةُ

وَالأَنَامُ فِي شَوَارِعِي غِضَابُ

بَيْنِي وَبَيْنَ العَالَمِينَ يا فُؤَادِي

قَدْ تَأَجَّجَ الْخَرَابُ

ثُمَّ ﭐرْتَمَتْ عَلَى بَقَايَا هَيْكَلِي الْجِرَاحْ

آحْ.. آحْ.. آحْ..

لَيْتَ حَبِيبَ القَلْبِ يَحْلُو..

ثُمَّ يَرْضَى..

"لَيْتَ" مَا أَمَرَّهَا

حِينَ يَرِنُّ صَوْتُهَا الْمُبَاحْ

فِي شَارِعٍ يَمْلأُهُ الإِنْسَانُ

بِالصَّهيلِ وَالْمُوَاءِ وَالعُوَاءِ وَالنُّبَاحْ

****

فِي هَذِهِ السَّاحَةِ تَهْوِي دَوْحَةٌ

عِنْدَ الضُّحَى الوَهَّاجْ

وَقَبْلَ أَنْ يَجِيءَ لَيْلٌ دَاجْ

تَنْبُتُ مِنْ جُذُورِهَا الأَبْرَاجْ

فَتَكْبُرُ الْغَابَةُ تَمْتَدُّ يَمِيناً

تَكْبُرُ الْغَابَةُ تَمْتَدُّ يَسَاراً

تَكْبُرُ الْغَابَةُ تَبْلَعُ الْهَوَاءَ وَالضِّيَاءَ

وَالنَّهَارَ وَالبِحَارَ وَالأَمْوَاجْ

****

فِي الشَّارِعِ الْخَلْفِي

تَجَمْهَرَ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ

وَالكِلاَبُ وَالقِطَاطُ..

فِي الشَّارِعِ الْخَلْفِي

تَجَمْهَرُوا..

وَمِنْ أَجْسَامِهِمْ أَعْجَازِهمْ

 دَائِرَةٌ مُلْتَهِبَهْ

كَانَ الكِلاَبُ وَالقِطَاطُ وَالنِّسَاءُ وَالرِّجَالُ

وَاقِفِينَ وَقْفَةً مُضْطَرِبَهْ

أَعْنَاقُهُمْ تَقَوَّسَتْ إِلَى الأَمَامْ

رُؤُوسُهُمْ مِثْلَ العَرَاجِينِ تَدَلَّتْ

عَلَّهَا تُغَادِرُ الأَجْسَامْ

عُيُونُهُمْ تَكَادُ تَهْجُرُ الوُجُوهْ

-"مَاذَا هُنَاكْ"

لاَ أَحَدٌ تَسَمَّعَ السُّؤَالْ

كَانَ الضَّجِيجُ قَاهِراً

كَانَ الكَلاَمُ قَاهِراً..

كَانَ السُّكُوتُ قَاهِراً..

وَالْخَوْفُ كَانَ قَاهِراً

..................................

فِي الشَّارِعِ الْخَلْفِي

تَجَمْهَرَ الْكِلاَبُ وَالقِطَاطُ

 وَالقِطَاطُ وَالكِلاَبُ

مِنْ أَيْنَ يَا قَلْبِي

بِهَذَا الشَّارِعِ الْخَلْفِي

سَيَأْتِيكَ الْجَوَابُ

وَهَؤُلاَءِ الْجُوفُ فِي شَوَارِعِي

بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ تَأَجَّجَ الْخَرَابُ

****

سَيَّارَةٌ بَيْضَاءُ مِنْ بَعِيدْ

يَسْبِقُ صَوْتَهَا

صَهِيلُ بُوقِهَا العَنِيفِ وَالْمُخِيفْ

اِنْحَرَفَ الْخَلْقُ يَميناً

اِنْحَرَفَ الْخَلْقُ يَسَاراً

اِنْبَثَقَتْ مِنْ شِدَّةِ الزِّلْزَالِ

بِالْمَيْدَانِ فَجْوَةٌ بِحَجْمِ الْحُزْنِ وَالْعَذَابْ:

عَلَى الرَّصِيفِ جُثَّةٌ نَاعِمَةُ الأَطْرَافْ

تَسْقِي دِمَاهَا أَحْرُفَ الصَّفْصَافْ

لَرُبَّمَا

سَيَّارَةٌ هِيَ الَّتِي..

أَوْ رُبَّمَا..

حَافِلَةٌ هِيَ الَّتِي..

أَوْ رُبَّمَا

شَاحِنَةٌ..أَوْ شَجَرَهْ

...........................................

شَابٌّ بَهِيٌّ تَرْتَدِِيهِ بِذْلَةٌ تَلْمَعُ كَاللَّيْلِ العُبَابْ

وَرَأْسُهُ تُخْفِيهِ خَوْذَةٌ بِلَوْنِ الْحُزْنِ وَالتُّرَابْ

سَأَلْتُهُ:

- مَا الأَمْرُ يَا زَيْنَ الشَّباَبْ

قَالَ: وَعَيْنَاهُ عَلَى مِئْذَنَةٍ تَعْلُو السَّحَابْ:

- بَحْرٌ عَنِيفٌ مَوْجُهُ

يَخْبِطُ كَالْعَشْوَاءِ..

مَنْ يُصِبْ(...)

وَكَمْ أَصَابْ

تَسَلَّقَتْ كَمَا اللَّبْلاَبِ عَيْنَاهُ بِخَوْفٍ

قَامَتِيَ الفِيْحَاءَ..

فَجْأَةً...

تَوَقَّفَتْ عَيْنَاهُ عِنْدَ وَجْهِيَ النَّحِيفْ

تَصَفََّحَتْ عَيْنَاهُ غَابَةً كَثِيفَةً

كَثَافَةَ الفَلاَةِ فِي حَيَاتِي

أَلْقَتْ ظِلاَلَهَا عَلَى مِرْآتِي

فَارْتَعَشَتْ بَيْنَ ضُلُوعِ صَدْرِهِ الْمُنْهَارِ

أَسْرَابُ اليَمَامْ

أَطْلَقَ صَوْتاً جَوْفُهُ الْمُرُّ كَمَا السَّيَّارَةِ البَيْضَاءْ

ثُمَّ ﭐخْتَفَى وَسْطَ الزِّحَامْ

****

فِي آخِرِ الْمَسَاءْ

وَبَيْنَمَا الْمَدِينَةُ العَمْيَاءْ

تَغُطُّ فِي رُقَادِهَا العَمِيقْ

وَتُحْكِمُ الغِطَاءْ

كَانَتْ تَقُضُّ مَضْجَعَ الفَضَاءْ

صَفَّارَةُ القِطَارْ

(لَكَ الْحَمْدُ وَأَنْتَ تُسَخِّرُ هَذَا لِعِبَادِكْ

مَا كَانَتْ نَفْسٌ وَاحِدَةٌ مُقْرِنَةً لِعَطَائِكْ

كُلُّ عِبَادِكَ مُنْقَلِبُونَ إِلَيْكَ حَبِيبِي..

كُلُّ عِبَادِكْ)

كَانَ القِطَارُ آخِرَ الْمَسَاءْ

قَدْ بَلَعَ الرِّجَالَ وَالنِّسَاءْ

قَدْ بَلَعَ الصِّغَارَ وَالْكِبَارَ ثُمَّ غَابْ

لَكِنَّ وَاحِداً مِنَ الرُّكَّابْ

رَغْمَ ﭐنْطِفَاءِ جَمْرَةِ النَّهَارْ

لَمَّا يَصِلْ بَعْدُ إِلَى مَحَطَّةِ القِطَارْ

 

              

[1] - كتاب الخراب