النواعير والهوى والفرات
د. عمر عبد العزيز العاني
كلية الآداب / جامعة البحرين
قبل اكثر من ألفي عام من ميلاد السيّد المسيح – عليه السلام - ولدت مدينة الجمال بين سلسلة هضاب يمر بينها نهر الفرات ، وعمّرت على بركات هذا النهر – وهو مبارك – بساتين وجزر توسّطت هذا النهر العريض ، كانت كثيفة الأشجار عامرة الديار ، لا يكدّرهذه المدينة المقتطعة من الجنّة إلا قصص الأساطير التي كانت تشكّل ثقافة شعبيّة تلقتها طفولتنا ببراءة وعفويّة لكنها كانت مرعبة.
هذه المدينة هي قضاء عانة غرب العراق على أعالي الفرات، وتنسب إلى الآلهة آنات أو عانات ،
وقيل إن الاسم جاء نسبة إلى العانة وهي القطيع من المها أو الحمر الوحشيّة، كما يقل للمائة من الإبل هند ، وللعشرة عقال
النواعير التي تعدّ روح المدينة الساحرة تتصارع مع الزمن لها أنين ربما يعدّ قاتلا لأصحاب القلوب النابضة، ذكرت في أرقّ الشعر وأعذبه،
على أنين النواعير كانت تهدهدنا الأمّهات بحزين الأنغام، كثر منها كان دعاءً وأمنيات بيضًا عزّت على أبي العلاء المعرّي ففنيت فيما زمان غربته ووحشته لم يفنَ .
نشأ طفل الناعور على حزن مفطور، سلام على طفولتنا ، على وجعنا اللذيذ ، على آلامنا الممتعة، لا أحد يقنعني أن وجهًا أجمل من وجهها وهو يتوهّج من حرارة التنّور ، لا أجمل من قرص رغيفها المقسمس ، وليس هناك أعذب من وتريّاتها في أغاني الدللّول يالولد يابني دللّول ، عدوّك عليل وساكن الجول ( الصحراء المنقطعة ) يالولد يا ابني
المدينة كلها تتحدّث عن كنوز سليمان التي يحرسها الجنّ والعفاريت في مغارة أبي زيد التي يصل امتدادها – حسب زعمهم – إلى بيت الله الحرام في مكة المكرّمة ، لكن أحدًا من الناس لم يدخلها.
اشتهرت المدينة باستقطار الخمور من أعنابها المنوّعة ، تغنّى بهذه الخمرة شعراء في الجاهليّة والإسلام ، فقد ذكرها امرؤ القيس والأخطل والأعشى والراعي النميري وآخرون
كانت قد دخلت في الإسلام طوعًا عندما مرّ بها القائد الفاتح خالد بن الوليد مجتازًا صحراء السماوة متوجّهًا إلى الشام.
وقصيدتي هي سنا ذكريات تندب المدينة التي كانت مصطافًا ومرتبعًا لمحبّيها حتى عام 1985 م حين غرقت تحت مياه سد القادسيّة.
غرقت المدينة تحت الماء ببيوتها وبساتينها وجزرها العملاقة ، وصدقت عليها قصيدة
( أهواك بلا أمل )
ستمرّ كلمات ربما تكون غريبة فهي تشير إلى أسماء أماكن يتذكّرها الشاعر ... يا سقى الله تلك الأيام.
الـنـواعـيـر والـهوى وتـر الـذكـريـات يـعزف لحنًا فـاحـمـلـيني على السفين فما لي والـسـواقـي الـتـي تزفّ صبانا الأم_ــان الأم_ـان إنّ ف_ـؤادي الـنـواعـيـر والـرحى وشجون آذن الـبـيـن بـالـرحـيل ما إن فـإذا بـالـسـمـاء تـمطر ذكرى يـا دروب الـزيـتـون ثَـمّ عهود يـا دروب الـنـخـيـل ثَـمّ جدود شِـيَـمٌ تـحـضـن الـسماء علوًّا الـمِـقِـطـعـات والـسراي ومجدٌ وانـيـن الـنـاعـور فـي جُرُفيها يـأسـر الـقـلب شَجوها وصداها يشتكي – الليلَ – من صروف الليالي لـسـت أنـسـى هـضابها وكهوفًا نـاعـسـات الأطراف ينفثن سحرًا والـلـيـالـي التي بوادي الخزامى ( قـد تـفـرّدن بـالـملاحة لولا ) | والفراتوالأسـاطـيـر والـنوى يـا لـقـلـبـي ستعزف الذكريات غـيـر ذكـرى الذين كانوا وماتوا والـعـنـاقـيـد فـوقها مشرعات رهـن ذكـرى وثَـمّ تـقضى الحياة وبـقـايـا رسـومـهـا والـرفات ودّعـتـنـا عـلـى الجوى عانات قـد خـلـت أمـس قـبلها المثلات ومـواثـيـق لـلـهـوى ورعـاة أكـرمـوا الأرض بـالـدماء سراة مـثّـلتها – على المدى – الباسقات وعـلـى الـسِـيب تسكب العبرات نـغـمـات لـكـنّـهـا لـسعات وعـلـيـه – من الأسى – وخزات مـثـلـمـا آذت الـقطا المزعجات والأسـاطـيـر حـولـها ملغزات بـابـلـيًّـا يـا حـبّـذا الـنافثات مـؤنـسـات سـمـاؤهـا مقمرات ومَـضـات جـادت بـهـا وَجَنات | والشتات