كنا نعيش في سَعَةٍ ورخاء .. كان بيتنا فسيحاً جداً.. مكوناً من طابقين, وكان مبنياً على شبه جزيرة لذلك كان يطلُّ على البحر من المشرق والمغرب.. وكان يطيب لأبي رحمه الله الجلوس والتأمل والاسترخاء على إطلالته, وأتذكر كيف كان حريصاً على أن نكون مثاليين في كل شيء, وكان يسابق الزمن من أجل تعليمنا, وسبقني في تعليمي سنتين دراسيتين عن أقراني, فإذا بي أهوي خمسة عشر عاماً إلى الوراء في غياهب الكهوف!
داري ... مهد ولادتي .. ومسرح إخوتي.. ومقعد دراستي .. لم تفارقني أبداً وأنا أصارع أشباح الموت .. بل كانت تداعب أحلامي وترسم فوق شفتي ابتسامة صغيرة مُنتَزَعة من بين الجروح..
ديارٌ سكنَّاها...... وحباً رويناها=تُحرَّكُ أشجَاني نسائمُ ذكراها
غصونٌ بفيءِ الأمنِ كانت تُظِلنُّي=فمالَت فؤوسُ الكفر تودي بأنداها
وشمسٌ بثوب النور لاح شعاعها=أتتْها غماماتٌ لتحجُب رؤياها
ديارٌ بجمع الشمل كانت ضحوكةً=ولكنْ قضاءُ الله حلَّ فأبكاها
كأني بها صارتْ رسُوماً قديمةً=وآثارَ أطلالٍ تنوح لبلواها
فطَوْراً بجوفِ الليل تسري بحُلمها=تهيمُ مع الذكرى وتُطْلقُها.. آها
وطوراً يسودُ الصمتُ صمتُ مقابرٍ=فتأوي إلى الأقمار تُفضي بنجواها
تُراني؟ إذا ما جِئتُها بعد غيبةٍ=تساءلُ من هذا الغريب الذي تاها؟
أُحِسُّ حناناً منه في كل لمسةٍ=أليس حبيبُ الدار يحنو لرؤياها؟
أليس حبيبُ الدار يعشقُ طيفَها=فكيف يضيعُ الحبُ؟ أم كيف ينساها؟
أحِنُّ إلى الأحباب مع كل خفقةٍ=وذكرى بتلكَ الأرضِ قلبي تغشَّاها
ويَأوي إليها الحِبُّ يمسحُ دمعها=يُذكِّرها الماضي ويَلْثُم يمناها
أهذا الذي بالأمس تعْهَدُه فتىً!=فتُذهِلُها اللُقيا وتذرف عيناها
هناك مع الأحباب كم طاب مجلسٌ=وسهراتِ نصفِ الليل كم كنتُ أهواها
هنالكَ قربَ السور خبَّأتُ لعبةً=هنالك أسراري تَبيتُ خفاياها
وكنتُ على الأدراج ألهو وإخوتي=تُضاحِكُنا الأقدارُ .. ما كان أحلاها
وفي ليلة الأعياد نسهرُ سهرةً=ووالدتي تروي طَريفَ حكاياها
ويأتي صلاح كي يساعد والدي=بتزيين جُدرانٍ فتبدو بأبهاها
وغالية تكوي ثياباً جديدةً=سهى تصنع الحلوى تهيِّءُ أشهاها
هناك زرعت الحبَّ أجني قطوفَهُ=هناك كؤوس الودِّ ... ما كان أزكاها
فأين قطوفُ الحب, أين كؤوسُهُ=وماذا من الأقدار حلَّ فأبكاها!
أيا دارَ أحبابي ومهدَ ولادتي=ومهبِطَ أحلامي... لقد عاد أسراها
أيا دارُ كُفي الدمعَ ما عاد موضعٌ=على القلب للأحزان.. ما كان أقساها
أتيتُ إليكِ اليومَ أعصِفُ قوةً=أُجدِّدُ أسيافي وأمضي بأمضاها
لئنْ رأيتِ الشيبَ طاف بهامتي=فقلبي لأُسْدِ الموت ما هاب لُقياها
سأمضي بعون الله بحرَ عواصفٍ=تهيج بموج الثَأرِ ... تأتي بأعتاها
تمزقُ ذئب الكفرِ, تطمِسُ وجههُ=ويُذبَحُ بالكَفِّ التي كان أدمَاها
فيا دعوة الإيمان حيِّي جهادنا=وحيِّي أسود الله... حيِّي سَراياها
فإن كان نصرُ الله فهو رجاؤنا=وهذي وجوهُ النور بَانَتْ ثناياها
وإن كانت الأخرى فتلك شهادةٌ=وروحاً لدين الله بالخُلدِ بِعنَاها