بسم الله، الذي خلق الإنسان، علمه البيان، والصلاة والسلام على رسوله محمد، أكرم الخلق جنانا، وأفصح العرب لسانا، وأبلغهم بيانا، القائل: إن من البيان لسحرا، وإن من الشعر لحُكما. (وفي رواية: لحكمة).
اعذروني أيها السادة إن كان قلمي كليلا، وكلمي قليلا، فقد تعْقِدُ المواقفُ الألسنة، وتلقي على القلب اليقظان سِنَة، وتجعلُ سحبانَ وائل، من شيعة باقل. وقديما قال أبو حيان: "إن الكلام على الكلام صعب"، إلا أن ذلك لم يمنعه من بسط القول فيما يحرك قريحة العقل، ويلطّف شغاف القلب، فليشفع لي ذلك في أن أغرف بعضا مما جادت به دلاؤكم، أو أتوسمّ بعضاً مما أيقظت به العقولَ والقلوبَ أنداؤكم، وأنا أستحضر قول أبي الطيب:
له أيادٍ إليّ سابقةٌ أعدّ منها ولا أعددها
لقد أظلتنا الحمامة البيضاء، تطوان، بأجنحتها الوارفة البهاء، فاتحة لنا طريق الارتقاء إلى ملكوت الشعر في الأفق الأعلى، للاقتباس مما من النور تجلى، ولنتحرر من أوهاق الضلالة وأثقال الظلمة، ونَعرُجَ إلى مملكة العشق والحكمة، فما من سبيل هو أهدى إلى الحقّ من الشعر إذا هو عرف طريقه، ثم استقام على الطريقة. وقد ألّفتْ بيننا هذه الحمامة البيضاء، وأظلتنا بسربالها القشيب، وهي تذكرنا بما قاله شيخنا حبيب:
إن يختلف نسبٌ يؤلّفْ بيننا أدبٌ أقمناه مقام الوالد
وقد أخذت بأيدينا إلى عوالم القصيدة المغربية، بما تتضمن من طريف وتليد، وما تتطلع إليه من تجدّد وتجديد، متوسلة إلى ذلك كله بما استمعنا إليه منكم، من رائق القول السديد، وباسق النقد الحصيف الرشيد. وما يجمع الحمامةَ والقصيدةَ أكثرُ من سبب، وأوسعُ من نسب. فقد كانت الحمامة، في كل الحضارات والأمكنة، وعبر الحقب والأزمنة، رمزا للمحبة والسلام، والأمن والسكينة والمودة والوئام، منذ نوح عليه السلام، حيث بشّر الحمامُ أصحاب السفينة ببلوغ برّ الأمان، إلى حادث غار ثور الذي كانت فيه الحمامة رمزا للسكينة، وانجلاء الحزن عن سيد الأنام، كما ذكر ذلك القرآن الكريم: (إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ). وفي الأساطير الغربية أن أفروديت، ربَّةَ الجمال، وُلدت في عربة حُملت من طيور الحمام. كما يُعرف في الأساطير أنَّ بناتِ أفروديت، الشقيقاتِ السبعَ في السماء، هُنّ سِرْبٌ من الحمائم. وكذلك كان الشأن عند حضارة آسيا الوسطى، وعند الهنود، حيث ترسم الحمامة وهي تحمل في منقارها غصن زيتون، دلالة على السلام. وقد جعل شكسبير في بعض مسرحياته (هنري السادس)، جبريل عليه السلام يأتي النبي محمدا عليه السلام، على شكل حمام، واستمرت رمزية الحمامة حاضرة حتى الفنون المعاصرة، من الواقعية إلى السوريالية، ومن أشهر اللوحات لوحة بيكاسو (الحمامة)، حيث تظهر الحمامة وفي منقارها غصن زيتون، ويعلوه قُرص نوراني، وتحت أقدامها الرقيقة تتكسر أسلحة الدمار، ولذلك اتخذها المؤتمر العالمي الذي عقد عام 1962 في موسكو، لرفض التسلح، ونصرة السلام، شعارا له. وقد قال بيكاسو بأن والده، هو من علمه رسم الحمام، وفسر هذا المنحى عنده بقوله:" أنا مع الحياة ضد الموت، ومع السلام ضد الحروب." ومما يميز لوحات الفنان العالمي، ابن تطوان البار، أحمد بنيسف هو الحمامةُ التي هي ذات حضور متجدد عنده.
إنني، ختاما، أجدني مدينا لكل الذين شاركوا في هذه الندوة العلمية، ببحوثهم وشهاداتهم، ممن جاءوا من المغرب، وممن وفدوا إلينا، مشكورين، من خارج المغرب. من الجزائر التي شهدتْ في مرحلة ما طفولتي الشعرية، في وهران، ثم في قسنطينة بعد ذلك، يوم استوى العود، ونهض البناء، وقد قلت يوما:
لجسورٍ مُعلّقةٍ تتزيّنُ منها قسنطينةٌ،
ألقُ الشّعْرِ، والرّميِ، والأملِ المتدفّقِ،
مثل انهمار الرّعودِ
ولسريانةٍ ظلّها المتمدّدُ، من نبضات الشهيدِ
إلى نبض آخر طفلٍ شريدِ.
وكذلك الذين شاركونا من مصر، التي وقفتُ عند نهرها العظيم يوما، قائلا:
تفدي عذارى النيل حسنَكِ طاهرا وأنا فديت على جداه النيلا
ما كنت أحسبني سأسقى عنده قبْل الرحيل شرابيَ المعسولا
أقف، في آخر هذا الحديث، محييا كل من حضروا هذا اللقاء العلمي الفذ، من الجمهور الكريم، وأشكر أساتذتي وشيوخي الذين طوقوني بأكاليل العلم والشعر في سنوات الطلب، ثم جاءوا ليطوقوني بشهادتهم في شعرٍ، إن هو إلا بعضٌ من غرسهم الطيب والجميل. ولزملائي الشعراءِ والنقادِ ما هم له أهل من الثناء، والمودة والوفاء، فإن اللسان، مثلُ السنان، يُفَلّ إذا عظم المطلوب، وقلّ المساعد. ولطلبتي وتلاميذي الذين نرى فيهم امتداد آثارنا من الشكر الجميل، والثناء الجزيل، ما تبيضُّ منه صفحة الدهر، فقد علمنا أستاذنا المتنبي أن نقول:
وما قلت من شعر تكاد بيوته إذا كُتبت يبيضُّ من نورها الحبرُ
وأما هذا الصرح العلمي، ومَن وراءَهُ، من السيد العميد المحترم، الدكتور محمد سعد الزموري، ومن الأساتذة الكرام أعضاء اللجنة المنظمة، وكلِّ مساعديهم، فأنا أعلم أن جهدهم كان موصولا بالليل والنهار، ابتغاء مرضاة الله، ثم خدمةِ العلم والأدب، من أجل أن تنجز هذه الندوة المباركة على أحسن وجه وأكمله. فلهم مني الشكر الذي ينقطع دونه اللسان، ومن الله الجزاء الأوفى الذي لا ينقطع أبدا.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
بمناسبة التكريم الذي أقامته للشاعر كلية الآداب والعلوم الإنسانية،
جامعة عبد المالك السعدي،
بتطوان، في 24 25 ماي 2016
كتبت القصيدة بوجدة: الخميس 6 رجب 1437 14 أبريل 2016
هكذا تحتضن تطوان، حمامة السلام، قصائد السلام. فالشاعر، إن هو دخل في زمرة الاستثناء، كان برؤيته ورؤياه المبشرَ في زمن الحروب بالسلام، وفي زمن التدمير والخراب بالعمران، وأهم ما يحرص عليه بناءُ الإنسان، إذ الإنسان بنيان الله، وملعون من يهدم بنيان الله. وقد أثر عن كعب الأحبار أنه قال: "إنا لنجد في التوراة قوما أناجيلهم في صدورهم، أظنهم الشعراء". فالشاعر إذن يحمل إنجيله في صدره، ويبشر بالسلام، وإذا قاتل أعداء الحياة فإنما يقاتلهم بغصن الزيتون، الذي لا يسمح لأحد بأن يسقطه من يده. =أيها الأحبة، أشعر بالغبطة وأنا أرى مجلسنا هذا يضم شيوخا لي وأساتذة أجلاء، وزملاء وأصدقاء فضلاء، وتلاميذ وطلبة أعزاء، فتجتمع الأجيال، كما تجتمع الأجيال الشعرية، لا في تصارع وتصادم، كما يحلو لبعض الأقلام أن تصفهم، بل هي تلتقي في تناغم وتلاحم وتكامل وتراحم، وأنا لا أنظر إلى المجايلة من باب التقسيم الزمني الذي يحشر كل عَقد في عِقد، بل من باب التقسيم الفني الذي يرى أنواع الشعر يفضي بعضها إلى بعض، فلم يقْصُر الله تعالى التجويد، والتجدد والتجديد، على عصر دون عصر، ولا على لون دون لون، والدليل على ذلك أن أعلام القصيدة المغربية مارسوا كل أنواع الكتابة الشعرية، وما يزال ما سمي جيل الرواد، وجيل التأسيس، يسهم في تطوير هذه القصيدة، جنبا إلى جنب مع شعراء الامتداد، بعدما جرب ذلك الجيل الأول الكتابة الشعرية بكل أنواعها. ومن منا ينكر، على سبيل المثال لا الحصر، أن عبد الكريم الطبال ومحمد السرغيني وأحمد المجاطي وأضرابهم، سعوا إلى تجديد القصيدة، انطلاقا من القصيدة الخليلية إلى القصيدة التفعيلية، وبعضهم تجاوز ذلك إلى قصيدة النثر، أو ما كان يسميه محمد الصباغ، ابن هذه المدينة، الشعر المنثور، في (شلال الأسود). وبعض هؤلاء الشعراء يصعب تصنيفه ضمن جيل بعينه، إذا قصرنا الجيل على عشر سنين.
تطوانُ تنأى، وحبْلُ الوُدّ يُدنينا = وهل سوى الوُدِّ يُدني من أمانينا؟
إن صَوّحَ الوردُ، وردُ العُمْر، بَعْدَ ندى = وأفْرِغتْ من أماني العُمرِ أيْدينا
فشمسُ ودّكِ يا تطوانُ تبعثُنا = فُرسانَ عشْقٍ قد اعتادوا الميادينا
رُدّي زمانَ الهوى يروي عريشَتنا =وسَروةُ العفّةِ الخضراءِ تُؤوينا
عُشّاقُكِ الخُضْرُ في أحْداقهِمْ أملٌ = وللمُحَنّشِ أنْداءٌ تناجينا
ومرجُ غرغيزَ يَحْكي لحْنَ منْ عبروا = إلى منابرِ عزٍّ ما يلينُونا
فبعضهم بجبالِ الرّيفِ مرقدهُ=وبعْضُهُمْ دمُهُ طِيبُ الملَبِّينا
ما بالهُ صار نهْباً في حرائقه = للشّانئين، وكانَ الُحبُّ ميمونا؟
حوكي حمامتنا البيضاءَ حُلّتَنا = ريْحانَ شِعْرٍ، ورَوْحاً ما يُجَافينا
دوري علينا بكأس الودّ مُتْرعةً =إذ كان كأسُ البعادِ المرّ يُشقينا
يا وردةً عطّرَ الفدّانَ بلْبُلُها= من (منطقِ الطّيْرِ)، والعطّارُ يُشْجِينا
بلقيسُ يومَ تجَلّى الصّرحُ همّتُها = لسِدرة المنتهى تحدو المحِبّينا
تلكَ الحمامةُ قد ضمَّتْ جوانحُها = أشْجَانَ ناسِكَةٍ أذْكتْ مآسينا
حيناً مسرّتُها البيضاءُ تمنحُنا = منّاً وسلْوى، وأحياناً تُبَكّينا
من أيقظ الشوقَ في أعْماقِ مبتهلٍ؟ = الحبّ نحن زرعناه بساتينا
من علّم النّاس معنى الحبِّ فانبلجَتْ = غياهبُ الكونِ، وانجابت غواشينا؟
لا يُزْهِرُ الحُبُّ إلا في مَرابعنا =والطّيْرُ ما صدحتْ إلا بوادينا
"يُحِبُّهمْ" وردةٌ في الرٌوحِ ناضرةٌ= سقتْ "يُحِبُّونهُ" منها الشّرايينا
كأنّ مزمَارَ داودٍ سرى فغدا = تأويبُها مُسْعِداً من كان محْزونا
كالغيْثِ يحيي مواتَ الأرضِ وابِلُهُ = والطلِّ يُخْرجُ خبْئاً كان مدفونا
وَحُبّنا عنْدَ عرشِ اللهِ منزلُهُ = وليْسَ يُدْركُ غِرٌّ ما يُعنّينا
لولاه ما غادر الجامِيَّ سكْرتهُ =ولا أخو قَرَنٍ صافى المريدينا
تطوانُ، وجهكِ ما زالتْ صباحتهُ = رغْم المشيبِ، بلحْن الحبّ يُغرينا
مُدّي بحقِّ الهوى العُذريّ ما سكبتْ = من طيِّبِ الشّعْرِ كفُّ النّايِ واروينا
لا الرّيحُ تُدْركُ ما الروميُّ حمّلهُ= من سرّه، لا ولا الدّرويشُ ينبينا
ألبستِني من سرابيل الهوى حللا =تَبْقى على الدّهْر، والأيّامُ تُبلينا
يمضي الزمانُ ويستبقي الذي نسجتْ = قِدْماً يدُ ابن أبي سُلْمى تلاحينا
وكيف تبلى على الأيّامِ بُرْدَتُهُ؟ = وطيبُها من سماءِ الغيبِ يُحْذينا
تطوانُ، جئتُكِ محمولاً على شغفٍ = من القوافي، فحوكي الشّعرَ تبيينا
يا خيْرَ وارثةٍ رُدّي لأنْدلسٍ = أنداءَ قافية ٍكانت تُجارينا
غرناطةٌ نثرتْ أخرى مواجعها = على يديكِ، و(أعمَاها) ينادينا:
لا أبتغي صدقات ِ المالِ إنّ يدي = مملوءةٌ، فامنحوا ما يبْعثُ الدّينا
وإنّ حوْليَ عُشّاقاً قدِ التمَسوا = ليلاهمُ عنْدَكمْ نصراً وتمكينا
هلْ عندكمْ نبأٌ من شأنِ قُرطبةٍ؟ = بَحَّ الأذانُ، ومن يحييه يحيينا
نبكي فلا حجرٌ إلا ويسعِفُنا = ولا ندى قَمَرٍ إلا يواسينا
فهلْ لنا عندكمْ يا قومِ من سببٍ = إلى النّجومِ، فليلُ الجُبِّ يؤذينا
تتيهُ ولاّدةٌ مِن لَحْنِ شاعرِها: = "أضحى التنائي بديلا من تدانينا"
فتستثيرُ شجا صبٍّ يجاوبهُ: = " يا نائح الطّلْحِ أشباهٌ عوادينا"
وما عوادي الذي يبْكي لأمّتهِ = كعادياتِ الذي يبغي الهوى طينا
داءٌ ألمّ فلمّا بان صوتكُمُ = آسى الجراحَ، وهل إلاه يشفينا
هذا الصّباحَ، سرى نيلوفرٌ عبِقٌ = كيما يظاهرَ نوّاراً ونسرينا
لكنّ قيثارتي من شجْوها نزفَتْ= أقْداحَ موتٍ غدتْ تسقي مغانينا
يا نفْخة الصّورِ، من يحي مراقدنا؟= ومنْ يُجدّدُ نوراً في مآقينا؟
ما أطْول الليْلَ للمحزونِ يقْطعُهُ = همّاً يُعَنّي، وتسهيداً وتحْزينا
قَدْ كانَ يُسْمَعُ للتِّبيان صلصلةٌ = كمثْلِ أجراس رُهبانٍ ينادونا
جبْريلُ أيقظَ في أشواقِها شُعَلا = تُهْدي الكواكبَ آياتٍ فتَهدينا
ما صوتُ أنجشةٍ إلا صدى نغَمٍ = من وقْعها صبّ فيه الكونُ تلحينا
فمنْ يردُّ إلينا " اقْرأْ" مجلجِلةً = أو رَجْفةً قبَستْ من طور سينينا؟
يجيءُ صوت سراج القلْبِ مبتهلا: = تطْوان تدنُو، وصوت الله يدعونا