أحبها الجزائـر
تقديــم:
قدر الشعر أن يهدم ما تشيده السياسة الرديئة من أوهام، وأن يرفع قواعد ما تهدمه من أركان؛ فهو بهذا عملية هدم وبناء مستمرين.
الشعر – باعتباره استكناها للوجود، وليس تعبيرا جميلا عن أجمل ما فيه فحسب – يقف على طرفي نقيض من السياسة - مختزلة في صورة الممارسة الحزبية الرديئة كما نعيشها في واقعنا العربي – باعتبارها نقضا لأهم ركائز ذلك الوجود، وليس تعبيرا قبيحا عن أقبح ما فيه فحسب.
هذا قدر الشعر الذي لا وجود له خارجه، ولا محيد له عنه: أن ينحاز إلى الإنسان، جوهر العمران، حين تنقض السياسة التي أشرنا إليها آنفا أركان العمران عروة عروة، بدءا بتجزيء الأكوان، وانتهاء بمسخ الإنسان.
ليس معقولا، بل هو من باب العبث المرّ، أن تكون مرحلة الاحتلال الفرنسي لشمال إفريقيا أرحم ببلدانها – ولاسيما الشقيقتان المغرب والجزائر – من مرحلة الاستقلال التي امتدت إلى الآن أكثر من خمسة عقود، كلها اضطراب بين البلدين، وتوتر، وبناء للجُدر الحقيقية والاستعارية، جدارا خلف جدار، وصل إلى درجة من الكراهية المصنوعة في مختبرات مَن مِن مصلحته أن تستمر هذه الحال في الجانبين معا حدَّ الحرب الفعلية، والقطيعة الحدودية، ضدا على منطق التاريخ الواحد، والجغرافيا الممتدة بانسياب، والمصير المحتوم المشترك، بناء على اشتراك كل مقومات الهوية الواحدة: الأرض والدين والدم واللغة والثقافة.
لا تبعد "فجيج" (المغربية) عن "بني ونِّيف" (الجزائرية) إلا بثمانية (8) كيلومترات، ولا "مغنية" (الجزائرية) عن "وجدة" (المغربية) إلا بعشرين كيلومترا، وهما على التوالي على مسافة ساعة مشيا على الأقدام دون تكلفة، وخمس عشرة دقيقة عبر القطار بدراهم معدودة. هذا ما تقوله الجغرافيا على الأرض، لكنَّ إبليس القطيعةِ البلهاء نصب المتاريس والأشواك في وجوه العابرين، وشلّ عجلات القطار، فحول بذلك ساعة الأقدام بين "فجيج" و"بني ونِّيف" إلى جنون لا يُتصور: رحلة عذاب يشهد عليها بابور البر وبابور الجو طيلة زهاء 2500 كلم من فجيج إلى الدار البيضاء، ثم من الدار البيضاء إلى وهران، ثم من وهران إلى بني ونيف، بمقابل مالي يكفي المرءَ في هذه البلاد لعيش سنة كاملة!! لكن قمة الجنون أن يعيش المرء على أحد الجانبين طيلة حياته، ثم يموت، دون أن يُقدر له صلة رحمه المقطوعة على الجانب الآخر. لذلك اقتحم عوام الناس – ضدا على كل هذا المنطق الأهوج للساسة والسياسة – تلك المتاريس، وفرضوا على حراس الحدود تسللهم بين القطرين، جيئة وذهابا، وسمّوا طريقهم ذاك بذكاء بالغ "طريق الوَحدة"، ليكون أبلغ رد شعبي على سياسة قطع الأوصال التي تسبب ويتسبب فيها ارتهان العسكر والساسة لغير مصلحة شعوبهم، والاندفاع الأخرق لأغلب الأحزاب في كلا البلدين، والتهييج الأفظع الذي تقوده كثير من الجهات المشبوهة عبر صحافتها المسمومة، حزبية و"مستقلة".
قدر هذه القصيدة، قصيدة "أحبها الجزائر" التي أقدمها لشعبيِ البلدين أن تمشي على نفس "طريق الوحدة" بخطى ثابتة لا تحيد، نهارا جهارا، وليس تسللا تحت جنح الظلام، "قوّالًا" مجذوبا يحمل نعشه على كتفه، ويجاهر بالحكمة المحظورة بين ذوي النباهة، لا يعرف للحواجز الشائكة اسما ولا رسما، دونما خشية من رصد حرس المصالح المدجج بالقطيعة والضغينة، ولعلعة رصاص سدنة الأوهام المحكومة بالزوال، ولو بعد حين؛ لأن قدر الشعر أن يهدم ما تشيده السياسة الرديئة من أوهام، وأن يرفع قواعد ما تهدمه من أركان.
أحبُّهـا الجزائـر
سعيــد عبيــد
﴿قَالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُـونَ﴾
(قـرآن كريـم)
"وطني مغربي وأهلي بنـوهُ * إن ما بي من حُبّه مِثلُ ما بـكْ"
(مفـدي زكريـاء)
"إن الحدود التي يصنعها البشر،
والتي لا تتوافق مع منطق الحدود الطبيعية،
تكون غير حصينة"
(روبـرت د. كابـلان)
أحبُّها الجزائـرْ
أحبُّها، أقولُها صريحـةً
في الحبِّ لا أُنـاوِرْ
أحبُّها، لأنها شبيهتي، لأنّني شبيهُها، لأننا روحانِ في رُوحٍ تَماهيْنا قُرونًا في قرونٍ منذ أن كان الزمانُ نُطفة في رحِمِ الكونِ، وكان الكونُ فِكرةً تُـراودُ الأزلْ
ولم نَـزَلْ
ولمْ تَزل دماؤُنا دماءَنـا
ولم تزلْ مياهُنا مياهَنـا
ترابُنا ترابَنـا
هواؤُنا هواءَنـا
ولم يزلْ لسانُ يَمزُغٍ ويعرُبٍ لسانَنـا
ولم تزلْ مآذنُ الإلهِ تُنشِد النشيدَ نفسَـهُ
فيعبُرُ الأسلاك والخنـادقْ
وهازئًا بالواقفين بيننا ينكِّسُ البنـادقْ
ويُبْطل الألغامَ كي تحمرَّ ما بين الشقيقينِ الشقائـقْ
من لهفةٍ تسابِقُ المشارقُ الأشواقَ للمغـاربْ
فتحضِنُ المغاربُ المشـارقْ
فيغمزُ الأوراسُ للريفِ: انتصرنا يأخـي
ويلتقي الأميرُ بالأمير في سكينـهْ
فيسعَيَانِ عبرَ وجدةٍ إلى مغنيَّـةٍ
وعبر بشَّارٍ إلى فِجيـجَ
يرتِقان فَتقةَ الإفرنـجْ
فيَبرأُ الجرحُ لِتـوِّهِ
وتختفي علائمُ المشارطِ اللعينـهْ
أختيْنِ تَوأميْنِ تأتيانِ مثلما قد كانتا في البدء توأمَيْـنْ
سِيامِيَيْنِ فالفؤادُ مُفـردٌ
ونسمةُ الشهيقِ لا تكونُ مرَّتيْـنْ
فيسجُدُ الأمير والأميرُ للشكرانِ سجدتيْـنْ
ويَسعَدُ النخيلُ بعد حُزنه الطويـلْ
وتَلبس ابتسامةَ المواسمِ الفصـولُ
لا ترى لها دِينًا سوى المودَّةِ البَتُـولْ
وتفتح الصحراءُ للسَّارين والبيظانِ والطـوارقْ
أحضانَـها
ليقرؤوا ﴿تباركَ الذي...﴾ فتنتشي التـلالْ
مِنْ عشقها ﴿تبارك الذي...﴾ تنماثُ في فؤادها عناصرُ الرِّمـالْ
فيشربونَ الشايَ شايَ الجَمر في ضوء القمـرْ
وشِعر مُفدي وعَزيفُ جِيلِ جِيلالا وبالي للسَّحَـرْ
وفي القلوب جنةٌ للـوُدِّ
غِبطةً تراها في الرُّؤى فواتِنُ الحدائـقْ
*******
تحبُّني الجزائـرْ
ولو سعى بغير ذلك الوُشـاةْ
ولو قضى بِبَيْننا جَورُ القُضـاةْ
أحبهـا
تحبـني
ولست أفقهُ الذي يُخرِّصُ المُخَرِّصـونْ
ولا بِغيْر بَسمةٍ أُقابِلُ الذي على الإخاءِ يَنفُثـونْ
وبِئْستِ العُقَـدْ
أحبهـا
تحبنـي
وكلما رمى القَذى في صَفْونا المُعكِّرونَ ماءَنـا
ولوَّث الدُّخَانُ من نِيرانهمْ هواءَنـا
قبضتُ قبضةَ التُّـراب
لَثمتُهـا
وفي وجوه ناعِقي السياسـهْ
والعَسكر الغِـلاظْ
وناقِعي السموم من أراذلِ الصِّحافـهْ
حَثَوتُها فكانتِ الجـوابْ
لا يَكذبُ الترابُ إن كذبتُمو يا عابرِيـنْ
لا يَكذب التـرابْ
لأنه في البدء لم يكن سِوى الترابِ شاهـدًا
وشاهدًا يَجيءُ إن طواكمُ الغيـابْ
بأنني أحبها، بأنها تحبني، بأننا روحانِ في رُوحٍ تَماهَيْنا قُرونًا في قرونٍ منذ أن كان الزمانُ نُطفة في رحِمِ الكونِ، وكان الكونُ فِكرةً تُـراودُ الأزلْ
ولم نـزلْ.
وسوم: العدد 679