الشكوى

محمد إقبال (نظمها سنة 1909، قبل أن يردفها ب"جواب الشكوى" عام 1913)

ترجمة: الصاوي شعلان

العبد والمولى على قدم التُّقى =سجدَا لوجهك خاشعيْن على الثَّرى

* * *=* * *

بلغت نهايةَ كُلِّ أرضٍ خيلُنا=وكأن أبحُرَها رمالُ البِيدِ

في محفل الأكوان كان هلالُنا =بالنصر أوْضحَ من هلال العيدِ

في كل مَوقعةٍ رفَعنا رايةً =للمجد تُعلن آيةَ التوحيدِ

أُممُ البرايا لم تكن مِن قبلنا =إلا عبيدًا في إسارِ عَبيدِ

بلغتْ بنا الأجيال حُرِّيَّاتها =من بعد أصفادٍ وذل قُيودِ

* * *=* * *

رُحماك ربي هل بغير جباهنا =عُرف السجودُ بِبيتك المعمورِ

كانت شغاف قلوبنا لك مُصحفًا =يحوي جلالَ كتابك المسطورِ

إن لم يكن هذا وفاءً صادقا =فالخَلْقُ في الدنيا بغيرِ شعورِ

مَلأ الشعوبَ جُناتُها وعُصاتُها =مِن مُلحدٍ عاتٍ ومن مغرورِ

فإذا السَّحاب جرى سَقاهم غيثَه =واختصَّنا بصواعق التدميرِ

* * *=* * *

قد هبَّتِ الأصنامُ مِن بعد البِلى =واستيقظت مِن قبْل نفخ الصُّورِ

والكعبةُ العليا توارى أهلُها =فكأنهمْ مَوتى لغير نُشورِ

وقوافلُ الصحراء ضلَّ حُداتها =وغدتْ منازلها ظلالَ قبورِ

أنا ما حسدتُ الكافرين وقدْ غَدَوْا =في أنعُمٍ ومواكبٍ وقصورِ

بلْ محنتي ألا أرى في أُمّتي =عَملاً تُقدِّمهُ صَداقَ الحُورِ

* * *=* * *

لكَ في البرِية حكمةٌ ومشيئةٌ =أعيَتْ مذاهبُها أُولي الألبابِ

إن شئتَ أجريْت الصحارى أنهُرًا =أو شئت فالأنهارُ موجُ سرابِ

ماذا دهَى الإسلامَ في أبنائهِ =حتى انطوَوْا في محنةٍ وعذابِ

فثراؤهم فقرٌ ودولةُ مجدِهمْ =في الأرض نهبُ ثعالبٍ وذئابِ

عاقَبْتنا عدلاً فهبْ لعدوِّنا =عن ذنبه في الدهر يومَ عقابِ

* * *=* * *

عاشوا بثروتنا وعِشنا دونهمْ =للموت بين الذُّل والإملاقِ

الدين يحيَا في سعادة أهلهِ =والكأس لا تَبقى بغير الساقي

أين الذين بنارِ حُبكَ أرسلُوا الْ =أنْوار بين محافل العُشاقِ

سكبوا اللياليَ في أنين دُموعهمْ =وتوضَّؤوا بمدامع الأشواقِ

والشمسُ كانت من ضياء وجوههمْ =تُهدي الصباح طلائع الإشراقِ

* * *=* * *

كيف انطوت أيامُهمْ وهُمُ الأُلَى =نشروا الهُدى وعلَوْا مكان الفرقدِ

هجروا الديار فأين أزمعَ ركبُهمْ =مَن يهتدي للقوم أو من يقتدِي

يَا قلبُ حسبُك لن تُلِمَّ بطيفهمْ =إلا على مِصباح وجهِ محمدِ

فازوا من الدنيا بمجدٍ خالدٍ =ولهمْ خلودُ الفوز يومَ الموعدِ

يا ربِّ ألهمنا الرشاد فما لنا =في الكون غيرَك من وليٍّ مُرشدِ

* * *=* * *

ما زال قيسٌ والغرام كعهدهِ =وربوعُ ليلى في ربيع جمالها

وهضاب نجدٍ في مراعيها المَها =وظباؤها الخفِراتُ مِلءُ جبالها

والعشق فياضٌ وأُمةُ أحمدٍ =يتحفَّزُ التاريخ لاستقبالها

لوْ حاولتْ فوق السماء مكانةً =رفّتْ على شمس الضحى بهلالها

ما بالها تَلقى الجُدود عواثرًا =وتصدُّها الأيام عن آمالها

* * *=* * *

هجْرُ الحبيب رمى الأحبةَ بالنَّوى =وأصابهم بتصرُّم الآمالِ

لم يبقَ في الأرواح غيرُ بقيَّةٍ =رُحماك يا مِرآةَ كلِّ جمالِ

لو قد مَللنا العشقَ كان سبيلُنا =أن نستكينَ إلى هوًى وضَلالِ

أو نصنعَ الأصنام ثم نبيعَها =حاشا المُوحِّدَ أن يَذِلَّ لمِالِ

أيامُ سلمانٍ بنا موصولةٌ =وتُقَى أُويْسٍ في أذانِ بِلالِ

* * *=* * *

يا طيبَ عهدٍ كنتَ فيه منارَنا =فبعثتَ نور الحق مِن فَارانِ

وأسرْتَ فيه العاشقين بلمْحةٍ =وسقيتَهُم راحاً بغير دِنانِ

أحرقتَ فيهِ قلوبهمْ بتوقُّد ال =إيمان لا بتلهُّب النِّيرانِ

لم نَبق نحن ولا القلوب كأنها =لم تحْظَ من نار الهوى بدُخانِ

إن لم يُنِر وجهُ الحبيب بِوَصله =فمكان حُزن القلب كلُّ مكانِ

* * *=* * *

يا فرحةَ الأيام حين نرى بها =روضَ التجلِّي وارفَ الأغصانِ

ويعود مَحفلنا بحُسنكَ مُسفرًا =كالصبح في إشراقهِ الفيْنانِ

قد هاج حُزني أن أرى أعداءَنا =بين الطِّلا والظل والألحانِ

ونعالج الأنفاسَ نحنُ ونصطلِي =في الفقر حين القومُ في بستانِ

أشرِقْ بنوركَ وابعثِ البرقَ القَدي =مَ بِومْضةٍ لفَراشكَ الظمآنِ

* * *=* * *

أشواقُنا نحو الحجاز تطلعتْ =كحنين مغتربٍ إلى الأوطانِ

إن الطيور وإن قصصتَ جناحَها =تسمو بفطرتها إلى الطَّيَرانِ

قيثارتي مكبوتةٌ ونشيدُها =قد ملَّ من صمتٍ ومن كِتمانِ

واللحنُ في الأوتار يرجو عازفا =ليبوحَ من أسراره بمعانِ

والطُّورُ يرتقب التجلِّيَ صارخا =بهوى المَشُوق ولهفة الحيْرانِ

* * *=* * *

أكبادُنا احترقت بأنَّات الجَوى =ودماؤنا نهر الدموع القاني

والعطرُ فاض من الخمائل والرُّبَى =وكأنه شَكْوى بغير لِسانِ

أوَليسَ من هَول القيامة أن يكو =نَ الزهرُ نمَّامًا على البُستانِ

النمل لا يخشى سُليمانا إذا =حرستْ قُراه عنايةُ الرَّحمنِ

أرشدْ براهمةَ الهُنود ليرفعُوا الْ =إِسلام فوق هياكلِ الأوثانِ

* * *=* * *

ما بالُ أغصانِ الصنوبر قد نأتْ =عنها قَماريها بكل مكانِ

وتعرتِ الأشجارُ مِن حُلل الرُّبى =وطيورها فرَّت إلى الوديانِ

يا ربِّ إلا بُلبلاً لم ينتظرْ =وَحيَ الربيع ولا صَبا نيسانِ

ألحانُه بحرٌ جَرى متلاطمًا =فكأنه الحاكي عن الطوفانِ

يا ليت قومي يسمعون شِكايةً =هي في ضميري صرخةُ الوِجدانِ

* * *=* * *

إن الجواهر حيَّرت مِرآة ه =ذا القلبِ فهْوَ على شفا البُركانِ

أسمِعهُمو يا ربِّ ما ألهمتَني =وأعدْ إليهمْ يقْظةَ الإيمانِ

وأذقهمُ الخمرَ القديمةَ إنها =عينُ اليقين وكوثرُ الرِّضوانِ

أنا أعجميُّ الدَّنِّ لكنْ خمرتِي =صُنعُ الحِجاز وكرْمِها الفَيْنانِ

إن كاَن لي نغَمُ الهُنودِ ولحنُهمْ=لكنَّ هذا الصوتَ مِن عَدنانِ

 

[i] محمود هو السلطان سُبُكتكين، وإيازُ مولاه.

وسوم: العدد 681