يُصوّرُ ابنُ سينا بهذه القصيدة حالَ الروحِ حينَ تنزلُ إلى الجسدِ فتحبَس فيه وتألفُه وتنسى حرّيتَها التي كانت عليها؛ فيُشبُّه الروحَ بالحمامةِ الورقاءِ.
هَبَطَتْ إِلَيْكَ مِنَ المَحَلِّ الأَرْفَعِ = وَرْقَاءُ ذَاتُ تَعَزُّزٍ وَتَمَنُّـــعِ
مَحْجُوبَةٌ عَنْ كُلِّ مُقْلَةِ عَارِفٍ = وَهْيَ الَّتِي سَفَرَتْ وَلَمْ تَتَبَرْقَـعِ
وَصَلَتْ عَلَى كُرْهٍ إِلَيْكَ وَرُبَّمَا = كَرِهَتْ فِرَاقَكَ وَهْيَ ذَاتُ تَفَجُّعِ
أَنِفَتْ وَمَا أَلِفَتْ فَلَمَّا وَاصَلَتْ = أَنِسَتْ مُجَاوَرَةَ الخَرَابِ البَلْقَـعِ
وَأَظُنُّهَا نَسِيَتْ عُهُودًا بِالحِمَى = وَمَنَازِلاً بِفِرَاقِهَا لَمْ تَقْنـــَعِ
حَتَّى إِذَا اتَّصَلَتْ بِهَاءِ هُبُوطِهَا = عَنْ مِيمِ مَرْكَزِهَا بِذَاتِ اُلأَجْرَعِ
عَلِقَتْ بِهَا ثَاءُ الثَّقِيلِ فَأَصْبَحَتْ = بَيْنَ المَعَالِمِ وَالطُّلُولِ الخُضَّـعِ
تَبْكِي إِذَا ذَكَرَتْ عُهُودًا بِالْحِمَى = بِمَدَامِعٍ تَهْمِي وَلَمَّا تُقْلِــعِ
وَتَظَلُّ سَاجِعَةً عَلَى الدِّمَنِ الَّتِي = دَرَسَتْ بِتِكْرَارِ الرِّيَاحِ الأَرْبَعِ
إِذْ عَاقَهَا الشَّرَكُ الكَثِيفُ وَصَدَّهَا = قَفَصٌ عَنِ الأَوْجِ الفَسِيحِ المُرْبِعِ
وَغَدَتْ مُفَارِقَةً لِكُلِّ مُخَلـَّفٍ = عَنْهَا حَلِيفِ التُّرْبِ غَيْرِ مُشَيَِّعِ
سَجَعَتْ وَقَدْ كُشِفَ الغِطَاءُ فَأَبْصَرَتْ = مَا لَيْسَ يُدْرَكُ بِالعُيُونِ الهُجَّعِ
وَغَدَتْ تُغَرِّدُ فَوْقَ ذِرْوَةِ شَاهِقٍ = وَالعِلْمُ يَرْفَعُ كُلَّ مَنْ لَمْ يُرْفَعِ
فَلِأَيِّ شَيْءٍ أُهْبِطَتْ مِنْ شَامِخٍ = عَالٍ إِلَى قَعْرِ الحَضِيضِ الأَوْضَعِ
إِنْ كَانَ أَهْبَطَهَا الإِلَهُ لِحِكْمَةٍ = طُوِيَتْ عَنِ الفَطِنِ اللَّبِيبِ الأَرْوَعِ
وَتَعُودَ عَالِمَةً بِكُلِّ حَقِيقَةٍ = فِي العَالَمَيْنِ فَخَرْقُهَا لَمْ يُرْقَعِ
وَهْيَ الَّتِي قَطَعَ الزَّمَانُ طَرِيقَهَا = حَتَّى لَقَدْ غَربت بِعَيْنِ المَطْلَعِ
فَكَأَنَّهَا بَرْقٌ تَأَلَّقَ بِالحِمَى = ثُمَّ انْطَوَى فَكأَنَّهُ لَمْ يَلْمَعِ