يقول ابن حمديسَ في لوعةٍ = "قضتْ في الصبا النفسُ أوطارَها "
وبعدَ مرور سنين الشبابِ = وقد أبدلَ الدَّهرُ عُمَّارَها
تغيَّرَ عهدُ النعيمِ فذقتُ = شربتُ من الصَّابِ مُرَّارَها
"ذكرتُ صقليَّةً والأسى = يهيِّجُ للنفسِ تذكارَها "
فقلتُ وقدْ زادَ مِنْ لوعتي = وهيَّجَ في النفسِ إعْصارها
لهيَّجْتَ مِنِّي مكامنَ شوقٍ = وأيقظتَ في الرُّوحِ أكدارَها
فكيفَ بمن نفسه لم تزلْ = تحنُّ وتشتاقُ أوكارَها
ولم تقضِ ذامًا ولم تقضِ حقًّا = وغُرِّبَ عَنْها وَما اخْتارَها
" فإنْ كنتُ أُخرجتُ من جنَّةٍ = فإنّي أُحدِّثُ أخبارَها "
فأخبارُها يا ابنَ حمديسَ لا تَنْـــ = ــتهي تَطولُ وتملأُ أسفارَها
فسفرُ الجمالِ وسفرُ الجلالِ = وأخرى تخبِّئُ أسرارَها
إليها النبيُّ سرى ليلةً = وجابَ السَّماءَ وأقطارَها
فلسطينُ أرضٌ ولا مثلُها = فقد باركَ اللهُ أَحْجارَها
يُضاحِكُها كلُّ غيمِ السَّماءِ = وتُضْحِكُ في الأرضِ أزهارَها
بلادٌ تفيضُ الحيا والنَّدى = وتمزجُ بالشَّهْدِ أثمارَها
بلادٌ حَباها الإلهُ جمالًا = فَنُوَّارُها ضاءَ أنوارَها
وأنوارُ نوْرِ الرَّبيعِ التي = على الَّليلِ تُطلعُ أقمارَها
حمامٌ يمامٌ بلابلُ شَدْوٍ = تُحرِّكُ لِلشَّدْوِ أَوْتارَها
نَسائِمُ مِنْ حاملاتِ الأَريجِ = تَكادُ تُجلِّلُ أقطارَها
وَوَرْدٌ وَفُلٌّ وريحانُها = يَفوحُ يُعطِّرُ دوَّارَها
فبوركَ تُرْبٌ بها طاهرٌ = وأهلٌ وباركَ زوارَها
فإنِّيَ أُبْدِلْتُ منْ جنَّةٍ = بنارِ اغْتِرابٍ غَلَتْ قارَها
فنارُ اغْتِرابي جَحيمُ لظىً = تُسعِّرُ في جَسَدي نارَها
غدوْنا بها نَصْطلي حَرَّها = حَمَلْنا على الظَّهْرِ أَوْزارَها
فَقَدْ عَظُمَ الخَطْبُ خَطْبٌ هَمَى = وفجَّرَ في العَيْنِ أَنْهارَها
وحلَّتْ بِنا نَكْبَةٌ أَحْرَقَتْ = مِنَ الحَرْثِ والنَّسْلِ آثارَها
وعاثتْ عصاباتُ بَغْيٍ بِها = أَحَلَّتْ بأَرْضِيَ أَشْرارَها
وفرَّقتِ الأَهْلِ أَيْدي سَبا = فَصِرْنا على الأَرْضِ أَغْمارَها