ما زلتَ تُتعِبُ مصطفاكَ وتتعبُ=يا شعرُ قُلْ لي: أينَ مِنكَ المهربُ؟!
من قبلِ تكويني أراكَ مُعذِّبي=يا ليتَ بعد الموتُ لا أتعذَّبُ
إن جئتني كنتَ المهيمنَ، أو تَغِبْ،=فسِوى حضورِكَ ما لنفسي مطلبُ
ما أنت إلاّ الداءُ ذوّبني أسىً=ولأنتَ لي يا شعرُ أنتَ مُطبِّبِ
زعموا خلودي فيكَ، أيّةُ قيمةٍ=لغدٍ، ويومي مثلُ أمسي مُجْدِبُ؟!
ماذا يفيدُ العطرُ من قد غُيّبِوا=إن رُحتَ تسكبُه على من غُيِّبوا؟!
يا شعرُ حبُّكَ في دمي متجدّدٌ =وبرغمِ ما ألقى فأنتَ مُحبَّبُ
أضدادُ ما في عالمي بكَ عشتُها =حتى يظنَّ بأنني أتذبذبُ
وأنا ــ ويشهـــــــدُ من بـــــراني شــــــاعـراً ــ=إلاّ لمجدِ الحقِّ لا أتعصَّبُ
نفسي من الدُّنيا كما ألفيتَني=لا شيءَ يُرضيني بِها، أو يُغضِبُ
حرُّ الضميرِ أعيشُ فطرةَ خالقي=ديني الحقيقةُ، والحياءُ المذهبُ
ولكلِّ شيطانٍ أراك تفرُّ بي=وبكلِّ ما تأباهُ نفسي ترغبُ
تهوى الغرابةَ، والخيالَ، وتزدهي=بهما... وإنِّي منهما أتهرّبُ
ولأنتَ لولا الحبُّ، لولا نارُه=ما كنتَ يوماً في المسامعِ تعذُبُ
وأراكَ إن أرسلتُ فيك صبابتي=سَخِرَ المشيبُ، ولامَ فيكَ الأشيبُ
وإذا كتمتُ صبابتي ألْفيتَني=قَلِقاً على جمراتِها أتقلَّبُ
والحبُّ أين الحبُّ؟ أين نعيمُهُ=إن لم نكنْ نشدو به، ونشبِّبُ!!
لم تعرفِ الأيامُ قصَّةَ عاشقٍ=إن لم تكنْ بدَمِ البلاغةِ تُكتَبُ
والحسْنُ في كلِّ الوجوهِ أحبّهُ=وأراهُ يُطربُني، ومني يطربُ
لكنَّ وجهي شطْرَ وجهٍ إنْ مشى=كلُّ الوجوهِ عليَّ منه تغضبُ
إن قلتُ غيرَ الحقِّ عشتُ مُعَذَّباً=أو قلتُ حقّاً قيل إني «أجدبُ»
وإذا نصَحْتُ فلستُ أُبقي صاحباً=وإذا صدقتُ يقالُ إنِّي أكذبُ
وإذا ذكرتُ الظالمينَ وظلمَهم=قال الطغاةُ بأنني مُتحزِّبُ
أُصْلَى على الأقوالِ ألفَ جهنّمٍ=من لفحِ أدناها الجبالُ تُذَوَّبُ
وإذا صَمَتُّ فألفُ بركانٍ دمي=لِتُفَجّرَ الدنيا غدتْ تتأهَّبُ
والعدلُ إن أظهرتُ حاجتَنا له=قالوا تراثيُّ الخيالِ «مقْولَبُ»
وإذا عدَلْنا ساعةً عادَ الأسى=فرَحًا... وكلُّ قفارِ قومي تخصِبُ
وتراثُنا الغالي أَما أغنى الورى=ولقد قَلاهُ بنو أبي وتأجنبوا
فلمن سأشكو حالَه، أو حالهم=ومن الذي أبكي عليه وأندبُ؟
ولمن أبوحُ بما تعاني أمتي=من فرقةٍ منها العجائب تعجبُ؟!
فُطِرت مُوَحَدَةً، ووا أسفي لها=كم ذا توحّدها يَعِزُّ، ويَصْعُبُ!
لأكادُ أذوي حسرةً لمصابها=هيهات آناً عن شعوري يَغربُ!!
من ذا أرجّيه، وأندبهُ لها=شقيت ظنوني واستبدَّ الغيهبُ
وإذا كشفت عن اليهود ضلالَهم=قالوا: أصوليُّ الهوى متعصِّبُ
كانوا ومازالوا الفساد، وكم طغوْا=وتمسكنوا وكأنهم لم يُذنِبوا
لم يصلبوا جسَدَ المسيح، وإنما=روحُ المسيح بكلِّ آنٍ تُصلبُ
ولو أنهم بالعدل يوماً حوكموا=لرأيتَ أن فناءَهم يتوجَّبُ
والدِّين إنْ أجهرْ بما هو يوجِبُ=يغضبْ دعيُّ العلمِ والمترهِّبُ
وإذا صَمَتُّ فألفُ ألفِ مصيبةٍ=تأتيه ممّن باسْمِهِ «يتثعلبُ»
لم يبقَ منه رغمَ من نسِبوا له=إلاّ شعاراتٌ طغتْ، و«تمذهُـبُ»
وكأن من عملوا على إحيائه=عملوا على إفنائه وتألبوا
من ذا أُقرُّ، ومن ألومُ ومن ترى=أهدي؟! ومن أُهدى به، أو أشجبُ؟!
لم ألْقَ إخلاصاً، ولم أرَ حكمةً=لو أخلصوا لتوّحدوا، واسترهِبوا
والدِّّينُ دينُ الله عصمةُ أمرنا=أأظلُّ عمّا نابه أتنكَّبُ؟!
من لم يحبَّ أخاه ليس بمؤمنٍ=قولٌ له كلُّ الفعال تُكَذِّبُ
أأظلُّ عن هذا بعيداً، غافلاً=وأنا أحسُّ بأنني لَهُمُ الأبُ؟!
يا شعر قل لي: أين أين المهربُ=ولمن تراني إن كتبتُ سأكتبُ؟!
يا شِعرُ حالاتٌ وحالاتٌ أنا=وتكادُ بالحسراتِ نفسي تذهـبُ
في كلِّ حالٍ ألفُ ألفِ محاسبٍ=ولألف ناحيةٍ بآنٍ أُسحـبُ
لولاك منها كان قلبي خالياً=ماذا أقولُ وأنتَ أنتَ مُسبِّبُ؟!
ما كانَ لي ذنبٌ بما عذّبتني=أتراهُ سرَّكَ أنهُ بكَ يَعذُبُ؟!
عذّبْ كما تهوى ـ فديتكَ ـ واستبحْ=نفسي، وخذْ عمري فأنتَ محبّبُ
يكفيك أنكَ عشت صدقَك ساعةً=وسواك أمسى دينُهم أن يكذبوا
لا ضير من غضب الطغاةِ فكنْ لهمْ=رصدًا... فحقُّكَ أن تقول، ويغضبوا
كن ثائراً، نزِقاً، غضوباً، عاصفاً=وكنِ النذيرَ إذا تمادى المذنبُ
لا خيرَ في شعرٍ يُهادِنُ ظالِماً=وَيذِلُّ جبهتَه العليةَ مكسبُ
كم ذا أغرّ الصفحُ من قد أذنبوا=والعدلُ كلُ العدلِ لَوْ هُمْ عوقبوا
يا شعر لو أحببتُ مثلَكَ مخلِصاً=لَهَفا إليَّ وجاء يسعى المنصِبُ
ما جاء شطرٌ منك إلاّ خِلتني=بأشدِ آلام المخاض أُعذَّبُ
في كل شطرٍ منك أسكبُ مهجتي=ويَسُرُّ روحي أنها بكَ تُسكبُ
لا ترهبنَّ وكن لعهدك مخلِصاً=فلأنتَ بالحقِّ الأعزُّ الأغلبُ
سيزول ما فوق البسيطةِ راغماً=ولسوف يبقى خالداً ما نكتبُ
يا شِعرُ عفوكَ إن عتِبتُ هُنيْهةً=لم يَدْرِ صَفوَ الحبِّ من لا يعتبُ
سأفِرُّ من كلِّ الأماني هارباً=ولكم يَلذُّ إليكَ منكَ المهربُ!