ثُلاثيّة الغَيب والشّهادة
الشّعرُ والحجارة
هل يملكُ الشاعرُ أن يدجِّن الأشياء
أو أن يُعلن البشارة
إن كان لا يعرفُ أن جوهَرَ الحضَارة
يسكنُ قلبَ الشَّعب كالشَّرارة؟
هل يملكُ الشاعرُ أن يفجّر الحُروفَ كالقطر
وأن يُؤنْسنَ الأمطار
واللَّيل والنّهار
إن كانَ لا يجْتازُ خطّ النّار؟
هل يستطيعُ شاعرٌ أن ينشدَ الأشعار
أو يمارسَ انفجارَه
في غفلة عن لُغة الحجَارَة؟
المجْنون
وشاةٍ بلا قلب يداوونني بها
( مجنون ليلى)
وكل قتيل بينهن شهيد
( مجنون بثينة )
في زمن الفوضى وعصر الرعب
أشعلتُ نار الحبّ
( مجنون عائشة )
لا ينطفئ إلا ما يشرق
( مجنون إلزا )
{1}
وددتُ لو ملكتُ
أن أكتبَ فوقَ جَسَد الوردَة مرثاتي
وأن أفجِّرَ الحجَارة الخرساء بالضيَاء
{2}
تغادرُ الغزالةُ المقدَّسه
مُروجَها الخَضراء
لتستقرَّ في دمي صَلاه
تبعثُ في المستضعَفين الشَّوق للقَاء
وتَستثيرُ جذوَة الحياه
تقيمُ كلَّ راية منَكَّسه
{3}
هل تَبدأُ الثَّورة من محاجر امرأه؟
{4}
يسألُني عنك جَلالُ الدين
حينَ يغني شوقَه
وحينَ يشكُو لوعَة الفِراق ليلا
نايُهُ الحَزينْ
خولةُ كانَت في دَمي سَيفاً من النُّور ..
يفرُّ من حِصَار الزنج والقَرامطَه
من الظِّلال والرمال ..
والشَّواطئ التي تُفضي إلى الجَحيم
تقولُ لي : لا تستقِيمُ حُللُ التَّقوى
مع البهَارج المرقَّطه
أقولُ : يا أيَّتها الغَزالةُ المرابطَه
لم تكن البلجاء
نعَامةً ربداء
ولم تكُن نسيبة في أُحُد
قَعيدةَ العُطور والحنَّاء
فلنقتل الطقُوس والشَّعائرُ التي تراك
دُمية محنَّطة
ولنفتتح أزمنة النَّقاء
{5}
تنهضُ من مملكَة الله
كمشكَاة بها مصبَاح
يصعدُ من عيونها : حيَّ على الفَلاح
تجيبُها المآذنُ الشمَّاء
في وجدَة ..
في بغدَاد ..
أو في النَّاصِرة
فيفزعُ الملوكُ والقياصِرة
{6}
وددتُ لو مِتّ ..
بحجرة الوردَة الخَضراء واحتوتني
وفي ردَاء النُّور مرَّضتني
{7}
لا تسألُوا عرَّاف نجد عن دَمي
لا تسألُوا عرَّافة اليمَامة
فإنني مُسيَّجٌ بحبها
عهداً إلى القيَامة
{8}
وقفتُ في بوَّابة البُستان
كَالملك المهزُوم، لا يملكُ أن يرجِعَ أو
يدنو من الميدَان
وقفتُ وحدي ..
وذرفْتُ أدمُعا شدَّت نياطَ القَلب
بعد صَلاة الفَجر
ناديتُها : لو أنني خُيِّرتُ بين حُمْرِ هذه النَّعَم
وهذه الدُّنيا وما فيها من العُطَور والدنان
وبين ما يشعُّ في الجبين من مرجَان
ما اخترتُ غير نورك العَظيم
{9}
رأيتُ في هياكِل النُّور
رأيتُ العَاشق المقتُول
مسبِّحاً يقول :
الملكُ لك
والمجدُ لك
يا باعث الغَيث إلى الفلاةْ
يا أيُّها المَولى الذي إذا أحَبَّ عَبداً ابتلاه
{10}
رأيتُ في سُوق بني قريظة
دماً على جبين لُؤلُؤةْ
قَرأتُ في عيونها :
قد تَبدأُ الثَّورة من محَاجر امرأةْ
{11}
ها إنني الآن بكلِّ حَرف
أحرقتُ بعضا من كيان ضَامر كالسَّيف
{12}
أشكُرُ حبَّك الذي حَرَّرني
حصَّنني ضدَّ الهوى والنَّفس مرتين
من أجله ..صلَّيتُ ركعتين
{13}
تخرُجُ من دفَاتري عُصفورةٌ خضراء
تفتَحُ لي درباً إلى مملكَة الله ..
فيهمي النُّورُ في الأعضَاء
أدخلُ في الإسراء:
تمرُّ بي عبرَ ربُوع المدُن الحمراء
والبيضَاء
والخضراء
فلا أرى غير شريط داكن
يدجِّنُ الرجَال والنسَاء
وغيرَ سكِّين على الأعنَاق
والثُّديّ في الصَّباح والمسَاء
تحطُّ بي عُصفورتي الخَضراء
فوقَ لسان اللَّهَب الممتَدّ
في جنَبات المسجِد الأقصى ..
وفي كل دَم ..
يجأرُ بالدُّعَاءِ ..
في جوف الدُّجى المصقُول .
تُسلمني لعتبات القَتل ..
أو لعتبات النَّصر في كَابُول .
تبعثُ فيَّ الوعدْ
تمنحُني قوساً وأبجَدية
أولها : الحريَّةْ .
{14}
يجيءُ عامُ الحُزنْ :
كانَ أبي متوَّجا بالنُّور
والقمَر المسحُور
يُلقي على شبَّاكنا المفتُوح كلَّ ليلة
كتابَه المنشُور
فيسبحُ الأطفالُ، كالأسماك،
في بحيرة العبير
كانَ أبي كَالنَّخلة الهيفاءْ
الأملُ المرسُومُ فوقَ وجهه
مُباركٌ كَلثغة العُصفُورْ .
وجاءَ عامُ الحُزنْ
صَارَ غُرابُ البينْ
يطلُّ من خلفِ جفُون القمر المذعُورْ
والعيدُ أضحى زائرا
يخرجُ من قميصِه الدَّيجورْ
وفارسي المقهُورْ
ظلَّ يطوفُ حائراً بسيفه المكسُورْ
{15}
لو تقبلينَ كُنتُ يا سيِّدةَ العصُورْ
أخاك ..أو أباك.. أو ..
وانحطمَ المصباحُ فوق شفَتي
وأُسر العصفورْ
{16}
يحترقُ الحسُّون في رحلته الأخيرَة
من قبل أن يعاين الجزيرَة
فهل ترى استودعتِه سِرَّك يا أميرَة ؟
وهل ستبكينَ غداً مصيرَه ؟
{17}
أبصر في قرارَة الكأسِ
صورتَها تومئُ لي
فأحتسي نفسي ولا نفسي
أولدُ عندَ شفة تخبئُ الكُروم والزَّهرْ
وضحْكة القمَرْ .
تحيطُ بي الرمَاح
فأستمدُّ من جبين الوردة المعشُوقةِ الصَّباحْ
وأستجيرُ من ظلام يأسي العاتي
بظل مولاتي !
{18}
وقفتُ في بوَّابة البُستان
دعوتُ وردَتي إلى الدُّخول
لكنَّني بقيتُ مثل العَاشق المقتُول
مُغترباً ظمآن
{19}
قلتُ لها الودَاع !
فقالَ لي صَبري : لقد ودَّعتني
وقالَ لي عقلي : لقد أودعْتني
مدائنَ الضَّياع .
{20}
وتبدأُ الثَّورةُ من محاجر امرأة
البستان
أَتَىٰ أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ
سورة النحل
إلى التي رحلت مفجوعة بالأمل الذي خاب،
وإلى التي أقبلت محصّنة بالأمل الذي لا يخيب !
*******************************
وأبصرتُ نورَك هذا الصباح
فأسكنَني نُزلا بين نار وماء
ولم أحتمِل غبطة النُّور وحدي
فاستوطَن القلبَ شوقٌ
إلى دفقَة من بُكاء
دخلتُ بساتين من كلمَات
عسى يقعُ القلبُ بين رياض بها دمِثات
أتأنَّقُ ما بينهن ..أبثُّ إليهنَّ وجدي
أقاسمهنَّ تراتيلَ سهدي
وأبصِرُ وجهَك فيهنَّ نبعَ ضياء
تصفحتُ كلَّ الدَّواوين
طفتُ مع الشُّعراء
فأخرجتُ طاغُور من قدسه
لعلي أشرَبُ من كأسه
قطرةً من سَناك:
(يا حبيبي، على بحر النور تبسط الفراشة جناحيها
وعلى ذرى أمواج النور يتلألأ الزنبق والياسمين).
واختفَى نورُهُ تحتَ نوركِ .
جالستُ مجنون إلزا
فإذا هو يبحثُ عن ظله
صوته بيننا :
( هذا البلد الذي لا تنام فيه المياه
عبر سبعة قرون كاملة
لم يهدأ فيها الإعصار
مر كربيع السيل المحمّدي العظيم
في هذا البلد الذي لا تنام فيه المياه ) .
يتقدَّمُ عقْبةُ من جسد البَحر
يرسلُ ناظره للسَّحاب المُرابط في الأفق
يُلقي السَّلام !
- على من تُسلِّمُ يا قائد المسلمين ؟
- على قوم يُونس .
يُلقي الجوادُ بحافره في المحُيط
وينْشقُّ بحرُ الظَّلام
- السلامُ عليك عُميرة !
يا زهرَة الأندلسْ
ويا جذوة المقتبسْ
ويا صرخةً في عُصُور الرَّماد
ويا نجمةً فوق نحر الغلسْ
ويا طائراً ظلَّ مختزنا في الدِّماء
شموس بلادي
ثم حطَّ، وقد عبر الأقينوس، على آرمرو
أصوتك ذاك المنادي
ألا إن جُرحي جُرحك يا طارق بن زياد
السلامُ عليك عُميرة
لا تذكُري حجرةَ الدرس
والكُتبَ المدرسية ..
لا تذكُري ساحةَ اللّهْوِ،
لا تذكُري الأصدقاءَ الصغارْ
ولا تُرسلي دفقةَ الحُب فوَّارة
للعُيون التي لعبت تحت شمس النهارْ
فما عاد للدّرس معنى
وما عاد للحب معنى
بعدما غاض نورُ السماوات في الأفئدة
(يحذركُم نفسه
ثم ينذركُم بدخان وطين …)
آه يا جسداً عانقَ الطينَ عضوا فعضوا
وروحاً تسامق للنُّور حبّا ونجوى
لعينيك هذا البريقُ الذي ليس يبلى
لقد كان صوتُك كالنَّسمة الهامسة
عبيرَ صلاة
يوحِّد بين المنون وبين الحياة
فقد صارَ صوتُك سوطاً
على (أنبياء) حضارتنا البائسَة
فماذا أقول
وقد نبَتَ العوسجُ المرُّ فوقَ لساني ؟
عميرة ودِّع ..كفى الشّيب ..
لا ! بل كفى الموت ..
من سيصونُ شعاعَ الضمير ؟
ومن يحضنُ الأملَ المستجير ؟
سلام عليك !
فحُزني من الكلمات أجلّ وأعلى .
رجعتُ وقد طوَّق الحزنُ مني
الكيان الشريد
وساءلتُ بلبل شيراز :
هل تنطقُ الطيرُ مخُبرةً بالذي كان
أو سيكُون ؟
فلاذ بأحزانه كخيالٍ برتْهُ المنُون
وآنستُ من شمس (تبريز ) نارا
ولكنها ما أحاطت بنُورك وصفا
فمن سيُغنيك ؟ أو من يُصور نُورك
في لوحة أو قصيده؟
ويا زهرة الآس، يا عبرة المتبتل،
إني أبرّئُ وجهك من أغنيات السَّلام الهزيل
ومن كل شعر يتاجرُ بالزعتر المرِّ
والشَّجر المستحيل
ويسرقُ من جبل الكرمل المتضوِّر
أسرارَه في الأصيل
ليحظى بأقداح خمر،
ويسقط مرثية
فوق خصر نحيل
دعوتُك يا ظبية في المساء
إلى ظئرها رانية
تأنَّي ولا تكشِفي كل أسرارك الغالية
سيأتيك شعبُك في مهرجان
يقدِّمُ لله أشواقه
ويرفعُ زهرته القانية
ويعلنُ بدء الزَّمان الجديد
فلا تعجبي أن تحفَّ المكارهُ دربك
لا يخلف الوعد ..
فاتَّشحي نُورك القُدسي
ومُدي إلى سِدرة المنتهى
دعوة من سراج النُّبوة تبعث هدي الخليل
أرى عاشقا من بلاد الجليد
يلامسُ نُورك ..
أسألُه عنك ..
يقرأُ لي من كتاب النديم :
( أكان القرآن أزليا
مالي بذلك علم !
أوكان القرآن مخلوقا .
لست أدري !
أمّا أنه كتاب الكتب
فذلك ما أؤمن به
كما ينبغي أن يؤمن المسلم ) .
فليكن !
قد عرفت الطَّريق
آه ما أرحبَه
فلتكُوني الرَّفيق
إنها المأدُبةْ
ها أنا الآن أدخلُ بستانيَهْ
وأرتلُ آياته الباقيةْ:
{ الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِين}
فادخُلي …
اعتذار إلى أبي أيوب الأنْصاري
أقدِّم اعتذاري
إليك يا جوهَرة الصَّحراء
يا لُؤلُؤة البحَار
يا مجمَع البَحرين ..
يا معْلمَة الفتحَين ..
يا سيِّدَة الأقمَار
أقدِّمُ اعتذاري
إليك يا ناشرة السَّلام
يا قاهرةَ الظلام
يا عاصمَة الخلافة الخَضراء
من جحافل اليَهود والعُلوج ..
من مطارق الكُفَّار
يا قلعَة الفاتح ..
يا بشارَة الرَّسول ..
يا مدينةَ القباب والمآذن الصَّواري
صُوفيا الشَّهيد شَاهد
يبوحُ للعشَّاق بالأسرار
رأيتُ في محرابه
صَوتا نديَّ الروح بالتَّسبيح والصَّلاة
يرطِّبُ الشِّفاه
" ألا استمع للنَّاي غنَّى وبكى ! "
كانَ جلالُ الدينْ
ونايه الحزين
ينمنمان الحزنَ والفرح
قوسَ قزح
على جباه الشَّجر المرمي في شواطئ البوسفور
والمتحَف الحربي - باسم الله -
كَانَ صوتُه الأخضرُ يعلو
ناسجاً ملحَمة خَضراء
من رحم الحُروف والأشياء
أقدمُ اعتذاري
أنا الذي خلفَ أمير مكَّةٍ
قاتلتُ ضدَّ نفسي
أنا الذي بمدْية الغدر حززتُ رأسي
أنا الذي باسم العُروبة الشقيَّة
انسلختُ عن دمي
ثم رأيتُ المجدَ - كلَّ المجد - في مرفَأ الانتحَار
أقدمُ اعتذاري
يا صَولة التَّاريخ ..يا مجدي الذي وأدتُه
يوماً على رصيفِ الانتظار
فنحن جيلُ الموت قبل الموت
نحنُ جيلُ الانكِسار
ونحنُ أرضٌ أقفرت في موسم الأمطَار
أمسِ رأيتُ صَاحبي الذي أتىَ
من قَرية الجُوع والانصهار
رأيتُه …
فهدَّني الحُزنُ، وبثَّ في دمي
مرارةَ الحصَار :
قد كانَ في شبابه يحلُم أن يعلو حبلَ المشنقة
يمشي وفوقَ صدره
أوسمةٌ معلَّقة
من بعدما صَار يقول بالإخَاء العقدي والسَّلام
(في وطَن السَّلام )
أهكَذا يموتُ في أعماقنا الضِّياء ؟
أهكذا ينهدمُ البناء ؟
هل يغسلُ الحزنُ خَطَايانا ..
كما تغتسِلُ الحقولُ بالأنهَار ؟
وهل تذيبُ درَن الأنفُس دمعة بجوفِ اللَّيل أو ..
أو شهقةٌ لها أزيزُ النَّار ؟
أكلما نهضتُ ..
أو خرجتُ ..
أو جرَّدتُ من أشعَاري
سيفاً يحز عنق الظَّلام،
أو كفاًّ تعيدُ الخصب للترابْ
يفجعُني الأصحَابْ!
لأنَّ هذا النَّاس في زمَاننا:
ثيابُهم عَوارِ
وجوهُهم عَوَارِ
أقدِّم اعتذَاري
إليكَ يا سيفَ أبي أيوبٍ الأنصاري
استنبول / وجدة: صيف 1986.
وسوم: العدد 722