تنظيم القاعدة.. الرؤية الجيوسياسيّة والاستراتيجيّة والبنية الاجتماعية
أوَّلاً: مقدّمة
استهدف الباحث مراد بطل الشيشاني في كتابه "تنظيم القاعدة: الرؤية الجيوسياسية والاستراتيجية والبنية الاجتماعية" رصد الرؤية الجيوسياسية التي يسير عليها تنظيم القاعدة -منذ نشأته- والتي تنضبط من خلالها أفكار أعضاء التنظيم وقياداته، وذلك بناء على أطروحته المكوّنة من فكرتين:
الأولى: مسلّمة أنّ الدولة هي الفاعل الأساسي في العلاقات الدولية، أما الثانية: فهي أنّ الحركات السياسية والاجتماعية والتنظيمات العنفيّة باتت من جملة الفواعل الأساسية في العلاقات الدوليّة إضافة إلى الشركات متعددة الجنسيّات وبعض المنظمات غير الحكومية.
يرى الباحث أن التيّار السلفيّ الجهاديّ الممثّل بتنظيم القاعدة –سابقًا- يعدّ أبرز المؤثرين في سياق الفاعلين الدوليين وخاصة عند الحديث عن السلوك والعنف السياسيين، وهذا يرتبط بسلوكه السياسي المنضبط برؤية جيوسياسية لم يشَر إليها معياريًّا في دراسة الجماعات الشبيهة ، ومن ثمّ فقد سعى الباحث لتحليل السلوك السياسيّ للقاعدة من المنظور الجيوسياسيّ بهدف استدراك النقص في المكتبة العربيّة في هذا الباب.
ثانيًا: بنيَة الكتاب
قسّم المؤلّف كتابه إلى ستّةِ فصول وخاتمة وعدّة ملاحق، فخصّص الفصل الأول ضمن مدخلين في غاية الأهمية لفهم أطروحة الكتاب، الأول نظريّ؛ حيث خصّصه للحديث عن ماهيّة الجيوسياسيّة، من حيث نظريتها وتطبيقاتها ومقولاتها الأساسيّة ، والثاني تاريخيٌ؛ يوضّح السياقات التاريخيّة والمقولات الفكريّة المؤسسة للتيّار السلفي الجهاديّ وتنظيم القاعدة المعبّرة عنه حركةً اجتماعيّةً سياسيّةً متخطّية للحدود .
وخصّص الفصل الثاني لبحث تمدد التنظيم في منطقة الخليج العربي كما في حالتي اليمن والسعودية، وجعل الفصل الثالث لبحث وجود التنظيم من الناحية الجيوسياسيّة في بلاد الرافدين والشام : وذلك كما في حالته في العراق وسوريّة، من حيث رؤية قادة التنظيمات الجهادية في العراق وتوجهاتهم الإيديولوجية ، إضافة إلى بحث خلفيات المتطوعين العرب في صفوفه وأساليب تجنيدهم ودلالات السنّ في ظهور جيل جديد من السلفيين الجهاديين ودور النسيج الاجتماعي في مقاومة القاعدة، والبحث عن بعدٍ جديدٍ لنشر أفكارها واستقطاب المجندين ضمن صفوفها في سورية .
وبحث الفصل الرابع قضية انتشار الجماعات المبايعة للتنظيم في إفريقية، ورؤية التنظيم الجيوسياسيّة من خلال انتشاره في الصومال من شرق إفريقيّة، باعتبار الصومال مفتاح السيطرة على القرن الإفريقي ، وكونها الملاذ الآمن لنشر أفكاره وإقامة معسكراته ، إضافة إلى انتشاره شمالها وغربها ، كما توقّف عند تطوّر تنظيم القاعدة في دول المغرب العربي بدءًا من الجزائر فبقية الدول المغاربيّة ، أما انتشار التنظيم في جنوب آسيا ووسطها فقد خصّص له الفصل الخامس ، بهدف الحديث عن انتشار التنظيمات والشخصيات الجهادية في أفغانستان وباكستان ، والرؤية الجيوسياسيّة التي تبنّتها في آسيا الوسطى وتعرجات وتحولات التنظيمات الجهاديّة في مناطق القوقاز ودول الاتحاد السوفييتي المستقلة .
أما الفصل الأخير فقد عنونه الكاتب بـ "الغرب: أوروبا والولايات المتحدة" وخصصه لبحث ظاهرة الجهاديين الأوروبيين باعتبارها ظاهرة حداثية تنمو في مناطق العزلة والتهميش، والروابط التي تجمع بين الجهاديين، كرابط الجهاد الباكستاني والأفغاني ، ورابط الحداثة العمرية التي تجعله من أبناء الجيل الثالث الجهادي .
ختم المؤلف كتابه بخاتمة لخّص فيها أطروحته والملاحظات التي توصلت إليها ونقاط التحول الأهم في مسيرة تنظيم القاعدة ، إضافة إلى إشارته إلى مؤشرات تحوُّل في خطاب القاعدة وسعيها للابتعاد عن العنف وسيلة أولى للدعوة لأيديولوجية الجهاد، مع إمكان الاستفادة من الملاذات الآمنة التي توفرها أماكن انخراطه في الأعمال العسكرية ضمن الدول المضطربة .
ثالثًا: محور الكتاب وأطروحته الأساس
يقترح الباحث في كتابه قراءة توزّع نشاط القاعدة والجماعات التي اختارت التحالف معها والتعاهد "البيعة" على إيديولوجية الجهاد؛ من خلال دراسة بنية هذه الجماعات والعلاقات الداخليّة التي فيما بينها -ضمن إطار الجغرافي الذي توزّعت فيه-، والخارجية فيما بين قياداتها ومنظريها والجيل الجهادي الأول، وتأثير هذا الانتشار على الجيوإستراتيجية العالمية، إضافة إلى دور هذه التوزّعات في تأمين الملاذ الآمن لمعسكرات الجماعة وقياداتها.
ومن الجدير بالذكر في هذا المقام ملاحظة المؤلف حول انتشار القاعدة بتنظيمٍ هرميٍّ في أفغانستان، إلاّ أنَّ آثار أبي مصعب السوريّ بدت عليه لاحقًا خاصة في مرحلة ما بعد 2001، حيث بدأ نزوع التنظيم إلى اللامركزية مع ربط قيادات الجماعات المتحالفة معه باستراتيجية عامة إضافة إلى إنشاء خلايا منفصلة تنشط وفقًا لظروف المنطقة التي يتواجدون فيها، كما أشار إلى مساهمة العامل العراقي في تعزيز البعد السوريّ وصولاً إلى إنشاء خلايا ومعسكرات تعدّ كنقاط انطلاق في لبنان مما يسهم في تطوير استراتيجية "اللامركزية التنظيمية" بالتوازي مع الجماعات التي شكلت نواة القاعدة في المغرب العربي.
رابعًا: عوامل انتشار التيّار السلفي الجهادي
حاول المؤلف الوقوف على الحالة العلميّة والاجتماعية لأعضاء التيّار السلفيّ الجهادي في عدة بلاد كالسعودية والعراق، وذلك من خلال تتبُّعٍ إحصائيٍّ لمن وردت أسماؤهم في قوائم المطلوبين أو عُرفت هويّاتهم بإلقاء القبض عليهم أو إثر الإفصاح عن أسمائهم بعد مقتلهم، للوقوف على فئاتهم العمريّة والشهادات التي نالوها وكذلك تفاوت الدرجات العلمية التي يحملونها، وقد أوصلته دراسته على أن التهميش والفقر والبطالة كانت من أسباب دعم مجموعات عديدة للجهاديين في مواقف ودول مختلفة.
استخلص الكتاب –على سبيل المثال- أنّ المقاتلين السعوديين شكّلوا النسبة الأعلى للمتطوعين العرب في العراق (53%)، ثم يليهم السوريون بنسبة 13%، والمفارقة أن عدد العراقيين هو الأقل 8%. الأمر الذي يفسر قوة المقاومة التي وجهت ضدهم عبر مجالس الصحوات .
في سياقٍ آخر فإنّ المؤلف يوضّح أن النمط الجهادي قد تغيّر بعد بناء تنظيم القاعدة، حيث انتقل الاعتماد في عمل التنظيمات الجهادية من نطاق المجموعة في دولة إلى المجموعات المترابطة في العالم، وبذلك فإنها انتقلت من العمل العشوائي إلى الارتباط بسياقات جهاديّة واضحة محدَّدة الأهداف والوسائل، والتحوّل إلى نمط الفاعل ما دون الدولة، بحيث ينضبط أعضاء هذا التنظيم بعلاقات متعددة تتخطى أنماط العلاقات داخل الحدود الوطنيّة ويشير المؤلف في هذا السياق إلى وجود مراحل لهذا التطوّر، بدءًا من ما يسمى بانطلاقة الصحوة والإسلام السياسي، مرورًا بمراحل الجهاد الأفغانيّ وانتشار أنماط معينة من الالتزام الفردي "كإطلاق اللحية وانتشار النقاب" والالتزام الجماعي "بروز حركات عنف باسم الجهاد، والدعوات المستمرة لبناء المساجد ومعاهد القرآن والدعوة لتطبيق الشريعة"، ويحيل هذه الظواهر إلى عوامل مختلفة، كأزمة الهوية والشعور بالاغتراب وتنامي مشاعر الإحباط المجتمعي
1. التلاقُح والاندماج
على الرغم من أن بروز اسم القاعدة على الساحة العالميّة ارتبط بأحداث سبتمبر 2001، وتحوّلها إثر ذلك إلى رمزٍ في الوجدان الأمريكي والعالميّ لما يمكن للتنظيمات الجهادية فعله، إلا أن وجود القاعدة ذاتها يعود إلى عام 1988 حيث كان قادتها يعملون في الشأن الإنساني وجمع التبرعات ودعم المقاتلين في أفغانستان ضد الاتحاد السوفييتي والتنسيق بين المقاتلين الراغبين في القدوم إلى أفغانستان، إلا أنها تحوّلت بعد عشر سنوات -1998- إلى تنظيم يتكون من مجموعة من الفصائل العربية المتمركزة في أفغانستان، واتسعت دلالتها لاحقًا لتصبح تيّارًا أكثر منها فصيلاً، خاصة بعد أن أصدر التنظيم عبر شرعييه وقياداته فتوى تبيح قتل الأمريكيين واليهود في أي مكان في العالم .
غدت القاعدة –مع الأيام- تنظيمًا يدمج بين تيّارين "السلفيّة" و"الجهاديّة" وأشار في هذا المعرض إلى ثلاثة عوامل رئيسة تعمل على التوفيق والدمج بين السلفيّة والجهادية، أي بين الإطار الفكريّ والفعل العنفيّ للظاهرة، وهي الأفكار الثورية السياسيّة التي مثّلتها الثورة الإيرانيّة "الإسلاميّة" والأفكار الاجتماعيّة المحافظة، والانخراط في أجواء القتال أثناء الاحتلال السوفييتي لأفغانستان .
ويذكر المؤلف أن نجاح الثورة الإيرانيّة التي تحمل في ثناياها نظرية ولاية الفقيه على بالتوازي مع ما قوبلت به من تعاطف دفعها لتصدير نموذجها الثوري إلى الشرق الأوسط، إلا أن المواجهات التي جرت ضدها ومحاولات السعوديّة لتقوية حائط أصولي يواجهها دفع السلفيّة للتفاعل وتغيير الخطاب تجاه الساحة، بدءًا من احتلال الحرم المكّي عام 1980 مرورًا بسفر آلاف الشباب إلى الساحة الأفغانيّة باعتبارها "ساحة الجهاد" مع ما ترافق ذلك من سعي الحكومة السعوديّة لدعم الحراك الميداني بمرجعيّة الفكر السلفيّ عبر الخطب والدروس والمدارس في مخيمات اللاجئين، مما أدى إلى انتشار الأفكار السلفيّة في أفغانستان وباكستان، بالتوازي مع قدوم مئات الشباب المصريين الذين كانوا يحملون أفكار تكفير الدولة ومحاربتها بهدف تطبيق الشريعة .
لقد كانت أفغانستان -إذن- مخبر الاندماج والتلاقح بين التيار السلفي الداعي إلى نقاء العقيدة والمجتمع والاهتمام بقضايا الالتزام الديني، والتيّار العنفيّ الذي يرى في الوصول إلى السلطة غايته الأساسيّة، وهو ما أطلق عليه المفكر الفرنسي أوليفيه روا مصطلح السلفية الجديدة .
2. العولمة والتدويل
وقد أثرت التفاعلات الدولية في زيادة انتشار التيار السلفي الجهادي من خلال منحه طابع العالميّة، حيث أفرز انهيار الاتحاد السوفييتي والأزمات الأيديولوجيّة الثقافية التي ترافقت مع ذلك، ظاهرة عالميّة سمّاها صموئيل هنتجتون بـ "إعادة التشكيل الثقافي" بمعنى أن انهيار الاتحاد السوفييتي وانتهاء الحرب الباردة أفرزت تساؤلات جديدة عن الهويّة بعد أن كانت التساؤلات الأساسية متمركزة حول القطب أي "إلى أي جانب أنت" .
لقد شكّلت عمليات الانفتاح الاقتصادي، وتنامي قوى ما فوق "الدولة"، كالشركات المتعدّدة الجنسيّات، وموجات الانفتاح التقنيّ والثقافيّ، عوامل مساندة لتصاعد خطاب الحركات السلفيّة والأصوليّة، حيث برزت عمليّة العودة إلى الأصول على مستوى دوليٍّ ودينيٍّ في العالم ككل، وكانت الحركات الأصولية من نتاجه، حيث انخرطت السلفيّة كمنظومة فكريّة تعبّر عن العودة للأصل، وتلبي بذلك احتياجات الشباب المهمّش نفسيًّا وعاطفيًّا أمام تراجع هويته العاطفيّة جراء تغوّل العولمة.
ترافقت ضغوط العولمة مع ظاهرة التحول إلى السلفية بالتوازي مع اختلاف الفاعلية بين الأطراف والمركز، فالدول الإسلامية في المركز تفاعلت مع الظاهرة بشكل مختلف عن دول الأطراف، حيث إن تصورات المركز ترتبط بالواقع الاجتماعي والفكري الذي تغلب عليه وظائف الدولة والشرعية ونشر الدعوة ومساعدة الفقراء، مما يشير بالمحصلة إلى فشل النماذج التنموية والنظم الحاكمة في هذه القضايا، بينما ارتبطت تصورات دول الأطراف بوجود الأقليات الإسلاميّة وتفاعلها بالواقع المحيط بها ضمن أُطر أزمة الهوية ومقاومة الاحتلال والتذويب، مما سبّب في تزايد أو تجدّد الصراعات العرقية لدى الجماعات في العالم بشكل ملحوظ، وبرزت هذه الجماعات كفواعل رئيسية في حقل العلاقات الدولية ولم يعد الأمر يقتصر على الدولة.
هذه العوامل وفّرت البيئة المناسبة للتيار السلفي الجهادي للانتشار في العالم لكونها تعبّر عن العودة إلى أصول الذات والهوية، وقد انتشر هذا التيار في مناطق عديدة من العالم كالقوقاز وأفغانستان وباكستان والبلقان والعالم العربي والفلبين وشرق إفريقية وغربها، وغير ذلك من المناطق .
3. الاستمراريّة والتناوُب
وهذه من السمات المهمة للتيار السلفي الجهادي، حيث إن مناصريه يرون أنفسهم ممثلين لأيديولوجية الخلاص التي تمتلك الحقيقة، ولذا فإنهم ينتقلون باستمرار في رسم معركة الوجود بين "العدو القريب" و"العدو البعيد" ويظهر هذا من خلال اندماج مجموعة التكفير والهجرة المصرية التي اغتالت أنور السادات مع الجهاديين في الأفغان، ثم عودة هؤلاء الجهاديين إلى بلادهم واستنساخ تجربة مواجهة العدو القريب في المملكة السعودية والجزائر وليبيا، حيث كان أغلبُ القائمين والمخططين لهذه الاستهدافات من الذين قاتلوا في أفغانستان، وحين فشلت أهدافهم في ضرب العدو القريب عادوا إلى استهداف العدو البعيد حيث بدأت موجات جديدة من المتطوعين العرب تتوجه نحو الشيشان ودول البلقان والفلبين، بالتوازي مع تفجيرات كينيا وتنزانيا عام 1998، ثم أحداث أيلول 2001، والتي قامت على أثرها الحروب في أفغانستان والعراق وعاد على إثرها العنف لاستهداف العدو القريب مرة أخرى، خاصة إثر الزخم الذي ظهر في تيار الجهاديين في العراق .
4. البحث عن الملاذ الآمن
على الرغم من أن التمركز في الحيز الجغرافي يعد مقتلاً للجماعات والتنظيمات المسلحة كونه يسهل استهدافها وإنهاك بنيتها العسكرية، إلا أن الملاذ الآمن يعدّ محورًا استراتيجيًّا في تفكير التيار الجهاديّ السلفيّ، سواء بمنطق إقامة الدولة الإسلامية أو الإمارة أو الجماعة.
ينظر الجهاديون إلى الملاذ الآمن باعتباره مزية استراتيجيّة تحقق لهم فائدة أمنيّة ومعسكرات تدريب ووجود مقر مركزيٍّ وقنوات أسهل للتمويل، ولذا بدأ التيار الجهادي ممثلاً بالقاعدة بعد 2001 بخلق ملاذات لا مركزية متعددة في عدة دول لتقوم بإنشاء خلايا إيديولوجية محلية قامت بتفجيرات مختلفة في لندن 2005، وبالي 2002، والمواجهات مع السلطات السعودية بين 2003- 2006، وتفجيرات مدريد 2004، والدار البيضاء 2003، وذلك بعد أن تركّزت فكرة الملاذ الآمن في التنظيم على التمركز في بلد واحدٍ، أولاً في السودان، ثم أفغانستان، ثم إعداد عناصر لتنفيذ عمليات تفجير مختلفة في العالم .
ويلاحظ أن استراتيجية الملاذ الآمن بالتوازي مع استراتيجية التناوب والاستمرار عملت على تغذية الفكر الجهادي وتطويره بدءًا من آسيا الوسطى مرورًا بالمغرب العربي فاليمن والصومال ثم أوروبا، ويلاحَظ أن الصومال وأفغانستان واليمن ثم العراق لاحقًا تحوّلت إلى جبهات أساسيّة للقاعدة والتيار السلفي الجهاديّ حيث تؤمّن هذه الملاذات دورها في استمرار المعركة وانتقال المقاتلين من جبهة إلى أخرى، كالانتقال من أفغانستان إلى الصومال، ومن العراق إلى اليمن، وهكذا فإن عوامل الفقر والبطالة وغياب الدولة وسوء توزيع الموارد، إضافة إلى وجود الاحتلال تساهم بشكل موضوعي في استمرار وجود هذا التيار وتطوير أشكال وجوده .
خامسًا: التوزّع الجيوسياسيّ
يشير الكتاب إلى وجود خطّة لدى تنظيم القاعدة في التوزّع بين أماكن مختلفة مع الإشارة إلى السبب والهدف من اختيار هذه الأماكن والجدوى الجيوسياسية لها مع عدم إهمال الأسباب الأخرى لاسيما الدينية والاجتماعية، ويمكن الإشارة إلى أهمّ هذه التوزّعات وأسبابها كما في الآتي:
• كان اختيار السعوديّة لرمزيّتها الدينيّة ولوجود عوامل فكريّة توفر دعمًا شعبيًّا ومجندين للانضمام للقاعدة، إضافة إلى وجود مصالح اقتصاديّة كتوفر النفط ووجود الأمريكيين فيها بعد حرب الخليج .
• أما اليمن فقد اختارها الجهاديّون العائدون إليها من أفغانستان كون قبيلة ابن لادن الحضرميّة ما زالت فيها إضافة إلى وجود العامل الديموغرافي الموجود فيه، حيث العنصر البشري، وانتشار السلاح، والعادات القبليّة، والتمسّك القبلي والمجتمعي والفطريّ بالإسلام، والفقر، والطبيعة الجبلية الحصينة التي تجعله قلعة لأهل الجزيرة والشرق الأوسط، إضافة إلى حدوده الطويلة بحرًا وبرًّا ولاسيما أن اليمن يتحكم بباب المندب .
• أما العراق فإنه البلد العربي الذي تحتله الجيوش الأمريكيّة بشكل مباشر وتعمل إيران على التغلغل فيه ولذا فإن السفر للجهاد فيه سيكون بهدف تحويل العراق إلى "ساحة جهاد" لاستنزاف الغرب ممثلاً بأمريكا ومنعهم التوسع في المنطقة وإنهاكهم، كما يوفر لهم العراق منصة للانطلاق وهو ما تحقق لاحقًا بتحويله نقطة انطلاق إلى سوريّة، وقد استطاع الزرقاوي من تثبيت فكرة أن الجهاد في العراق "بداية الطريق إلى القدس" .
• أما الدول الغربيّة فإن القاعدة عملت على مسارين متوازيين أولهما: ضرب المصالح الأوروبية في أرضها وبث الرعب فيها من خلال نقل المعركة إليها عبر خلايا مدربة تزرع فيها، أما الثاني فيعتمد الدعاية لنظرية المجتمع الجهادي المفترض "الأمة المفترضة" ودفعت من خلال أساليب تجنيد مختلفة شبابًا مختلفي الانتماءات والأصول إلى ربط نفسهم بالقاعدة باعتبارها "الأمة المتعالية" على كل الهويّات الفرعيّة، ليقوموا إثر ذلك باستهداف الأوربيين بأنفسهم ونشر دعايتهم لأعداد أخرى، ومن الملاحظ أن أوروبا ليست محصّنة ضد حضور الجهاديين فيها وانتشار خلاياهم على أرضها، لأنها كانت مسرحًا للعديد من الهجمات الانتحارية على الرغم من حملات الاعتقالات والتشديد الأمني الذي كانت أجهزتها الأمنية تنفذه بين الفينة والأخرى، وما كوّنته المجتمعات المعزولة والمهمشة في زيادة الظاهرة الجهادية وتنميتها .
الخلاصة
تخلص الدراسة إلى نتائج عديدة أبرزها:
أن أنماط التنظيمات الجهادية تميل –إن صح التعبير- إلى التشكل بحسب النمط الجغرافي الذي تتشكل فيه، بحيث ترتبط سلوك المجموعات بالشروط التي تفرض عليها في أرض الواقع بداية، ثم تتطور آلية التجنيد لديها مع استمرار الدعاية الإعلامية لها، ويتشكل من خلال ذلك أهداف معينة للتركيز على استهدافها بين هذه الفروع كتركيز القاعدة في الصومال على القوات الحكومية والقوات الإفريقية، بينما يركز الجهاديون في وزيرستان الباكستانية على استهداف الحكومة الباكستانية، مما يجعل تمركز المجموعات في بيئات مختلفة عاملاً في تغيير الأولويات والأهداف، أي أن الحيز الجغرافي يساهم في تشكيل دور وظيفيٍّ للمجموعات التي تستقر فيه.
إضافة إلى ذلك فقد خلصت الدراسة إلى أنه من التعسف فهم المجموعات الجهادية بمنطق الإيديولوجيا وحده، بل لا بد من فهم رؤاها الجيوسياسية والأسباب الاجتماعية التي تشكل عوامل الانضمام إليها من خلال تحليل خلفيات أعضاء التيار الجهادي المتاحة، والتي تفيد أيضًا في فهم أساليب التجنيد، وتبيّن من خلال العلاقات والانتشار الذي نسجه التيار الجهادي على مدار عقود مدى قدرته على التحوّل والتأثير في الواقع السياسي الدولي.
وسوم: العدد 873